مفهومان رئيسيان طرحهما مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، خلال الأعوام الماضية، يمثلان مفاتيح مهمة لقراءة الأوضاع السياسية - الاقتصادية - المجتمعية في الأردن: فجوة الثقة المتنامية في الحكومات، ومعضلة الثلثين.
ظهر واضحاً، منذ عشرين عاماً، أنّ هناك أزمة شرعية للحكومات الأردنية في خطّ بياني منخفض عموماً، باستثناءاتٍ قليلة، بدأت فيها بعض الحكومات بتوقعاتٍ جيدة، لكنها سرعان ما انهارت في الاستطلاعات التالية، وأصبحت فجوة الثقة سمةً دائمةً لعلاقة المجتمع بالحكومات، بل يمكن أن نقول إنّها أصبحت بمثابة "حفرة انهدام" فمعدّلات الثقة بالحكومات ومجلس النواب ومؤسسات الدولة المختلفة، عموماً، أصبحت متدنية، وتنزل بصورة مستمرّة. وفي استطلاعات أخرى، أضاف مركز الدراسات سؤالاً عن الثقة المجتمعية، فكانت النتيجة صادمةً أكثر، فهي أيضاً شبه معدومة!
أمّا معضلة الثلثين، فقد كانت موجودةً باستمرار، لكن من لفت الانتباه إليها أخيراً هو مدير مركز الدراسات الاستراتيجية، زيد عيادات، وهو من صكّ المصطلح، ففي جميع استطلاعات الرأي في المركز هنالك ما يشبه الغياب الكامل لثلثي العينة الوطنية، بمعنى أنّ نسبة الثلثين غير مرئية، مختفية، لا نعرف أين هي، فمن سمع باللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية هم الثلث، ومن قرأ مثلاً مخرجاتها الثلث، ومن عرف عن قانون الانتخاب الثلث، ثم ينقسم الثلث إلى مؤيد ومعارض وهكذا، فأين ثلثا الأردنيين؟
يبدو أنّ ثلثي الأردنيين محبطون، غاضبون مشغولون بملاحقة همومهم اليومية، لكنك تجدهم، في أوقاتٍ كثيرة، من خلال المزاج العام المحبط الغاضب على مواقع التواصل، فإذا كان هنالك خبر رسمي أو تصريح لأيّ مسؤول كبير، فإنّ ردود الفعل عموماً تكشف عن حالة خطيرة من الأزمة المجتمعية - الثقافية - السياسية في البلاد.
رئيس الوزراء، بشر الخصاونة، كرّر، في حوار مع موقع "عمون" الإخباري، أنّ من يعمل ضد الأردن هي حسابات وهمية على صفحات التواصل الاجتماعي. وهذه هي "النظرية" السائدة، بالمناسبة، في مراكز القرار، ولذلك يخلدون إلى "راحةٍ خادعة" أنّ القضية أجندة إقليمية معادية، بغض الطرف عن مصدرها، وقد يكون ذلك صحيحاً جزئياً، لكنّه ليس دقيقاً ولا عاماً، فهنالك نسبة كبيرة من التعليقات والمواقف هي لأردنيين بأسمائهم ووظائفهم وعناوينهم، وهم غاضبون ساخطون، من جماعة الثلثين، أي الأغلبية، فهنالك أزمة كبيرة في الرؤية الرسمية، إذ لا تتمكّن من رؤية هذا الوضع.
إذاً، السؤال المطروح ليس في ما إذا كان الأردنيون غاضبين، بل: لماذا الأردنيون غاضبون؟ ونحاول أن نحلل فعلاً هل الأسباب اقتصادية مرتبطة بالفقر، وهل الأمر جديدٌ على الناس، أم هو مرتبطٌ بالبطالة أم تغير علاقة الدولة بالمواطنين، أم أنّ الشعور بانعدام العدالة وغياب الشعور بالأمن المجتمعي والسلم؟ وهل المشكلة في الأردنيين أنفسهم (كما تذهب نظريات غير معلنة في بعض أوساط القرار)، لأنّهم غير قادرين على فهم التحولات والتغيرات، أم المشكلة في الدولة وعدم قدرتها على قراءة الرسائل القادمة من المجتمع، وبالتالي أصبحت لديها أزمة كبيرة في أجهزة الاستقبال والتحليل والتوقيت المناسب لفهم ذلك؟
ما زلت أذكر جملةً قالها لي أحد الأصدقاء المثقفين في مدينة معان، خلال نقاش سياسي قبل أعوام، عندما سألناه عن صورة الدولة بالنسبة لهم، فكان الجواب: الأمن والدرك .. فمن الواضح أنّ هناك غياباً كاملاً لرواية الدولة ولمشروعها السياسي والثقافي في مختلف المحافظات والمناطق. ومن يراجع التعليقات المتعدّدة ويرصدها يلمس بوضوح أزمة انعدام الثقة، والشعور بغياب العدالة، وافتقاد أي مشروع واضح للدولة للمرحلة المقبلة، على الرغم من الاحتفالات والمهرجانات والأغاني والضجّة الكبيرة التي تتحدّث عن الولوج إلى مئوية الدولة الجديدة!
(العربي الجديد)