ازدواجية السياسة الأمريكية وثبات الروسية
د.حسام العتوم
29-01-2022 10:21 AM
السياسية لغة من ساس يسوس، وهي فن الممكن، و عنصر من العلوم الاجتماعية والإنسانية، والسياسة الأمريكية تحديدا وخاصة ما يتعلق منها بالسياسة الروسية متغيرة بالمقارنة مع الروسية الثابتة، ويمكن ملاحظة الازدواجية والباراسايكولوجية العميقة في داخلها، لكن ما يميز السياسة الأمريكية هو أنها لا تنزعج من النقد البناء ولربما لأنها تعرف مسبقاً بأنها لا تسير على سكة القطار الصحيح الواجب أن تسير عليه، والسياسة الروسية لا تستحسن النقد الشبيه لأنها واثقة من خطواتها القانونية المستقيمة وتحرص على أن لا تفقد البوصلة، ولكون أن روسيا الاتحادية هي الدولة الوحيدة العظمى في العالم القادرة على معاملة الولايات المتحدة الأمريكية العظمى من زاوية الند للند بسبب تعادلها معها على مستوى سباق التسلح والتفوق النووي والصوتي والفضائي والبحري، نجد بأن سياسة أمريكا تستهدف روسيا علنا هذا من جانب، وتعقد المؤتمرات اللوجستية والعسكرية معها في الغرف المغلقة من جانب أخر، ومن حيث تدري تستهدف أمن العالم، والسياسة الروسية التي تتصدى للأمريكية بسبب رغبة أمريكا ببقاء القط الواحد والسيطرة على أركان العالم، ولكون أن روسيا تقود عالم الأقطاب المتعددة، نلاحظها تعمل من أجل أمن العالم.
ومثلي هنا هو كيف عملت أمريكا في نهاية الحرب العالمية الثانية التي شارفت على الانتهاء على قصف اليابان بالسلاح النووي عام 1945 في واقعتي (هيروشيما وناكازاكي)، عادت لتقيم علاقات اقتصادية وعسكرية ولوجستية مع اليابان من زاوية مصلحتها القومية وسط الحرب الباردة التي تقودها منذ نهاية الحرب ولا تريد لا أن تنتهي لتحريك دفة الاقتصاد العالمي صوبها، وللاتجار أكثر بالسلاح الذي تسيطر على سوقه العالمي وتحتل المرتبة الأولى عالميا في مجاله. واعترفت أمريكا بأحقية جزر(الكوريل ) لليابان اللواتي سيطر السوفييت عليهن نهاية الحرب الثانية، واعترفت الأمم المتحدة بسيادتهن للسوفييت، وورثتهن روسيا الاتحادية بعد ذلك. وروسيا السوفيتية مثلا التي صنعت قنبلتها النووية عام 1949 حافظت من خلالها على أمن العالم، ولازالت روسيا الاتحادية التي طورت القنبلة ذاتها عدة مرات تحرص على أمن العالم، ولقد صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للصحافة العالمية بأن بلاده لن تستخدم السلاح النووي، ولن تبادر باستخدامه يوما، لكنها جاهزة للرد على أية ضربة نووية بمثلها، (وعندها يكون القتلى من طرف الجهة المعتدية والتي لم يسميها، ويكون الاستشهاد والصعود للجنة لمصلحتهم)، وقال وقتها العبارة الأخيرة عام 2021 مازحا، ولها معنى.
وفي الأزمة الكورية الشمالية التي تطورت بين عامي 2013 و2017 بسبب إطلاق كوريا لقمر صناعي ولتجاربها النووية، اصطدمت مع أمريكا لدرجة ساخنة، بينما دخلت روسيا معها إلى حوار مسؤول ووصلت لنتيجة مرضية. واعتبرت أمريكا الصين قوة اقتصادية صاعدة ومنافسة لجبروتها الاقتصادي رغم حجم التبادل التجاري معها والذي فاق حجم التبادل الصيني الروسي (أكثر من 370 مليار دولار بين أمريكا والصين، وأكثر من 146 مليار دولار بين روسيا والصين)، بينما تتعاون روسيا مع الصين في مجالات شتى، وتقدم لها مادة الغاز مقابل 400 مليار دولار، وتقدم الصين لروسيا صناعاتها المختلفة وعلى مستوى الألبسة الشعبية.
وعلاقة أمريكا مع إيران سرية وعلنية، وبكامل هيئتها مرتبطة بالمصلحة الإسرائيلية، ومشروع إيران النووي العسكري تحت رقابة الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية الدائم، وهو عمل استراتيجي عميق طويل المدى، ويقترب من السراب الآن، و في الوقت الذي قبلت فيه أمريكا عام 2015 بالاتفاقية النووية الدولية الإيرانية ( 5+1)، رفضته إلى الأمام ثم عادت وحسب المزاج اللوجستي الإسرائيلي قبلت به من جديد، بينما بقيت روسيا ثابتة على موقفها منها، وشرعت ببناء مفاعلات (بوشهر) النووية السلمية الإيرانية، وتعاونت مع الورقة الإيرانية الميدانية لتثبيت أقدام نظام دمشق الذي هاجمه الإرهاب من 80 دولة مستغلا ربيعه العربي، واستقطبت أمريكا لتفكيك السلاح الكيميائي للجيش العربي السوري الرسمي، في زمن لم ينسجم فيه نظام سوريا مع محيطه العربي والعجمي، و لم تكن فيه صورة التدخل الأمريكي في شأن الأزمة السورية الدموية، ومن دون دعوة واضحا. وذهبت روسيا مع أمريكا وبالتعاون مع الأردن وتركيا لفتح مناطق لخفض التصعيد جنوبا وشمالا، بهدف مساعدة اللاجئ السوري بالعودة إلى وطنه طوعا بعد تأمينه بالبنية التحتية اللازمة. ولم تتدخل أمريكا ولا حتى روسيا في سلسلة اختراقاتها لسيادة سوريا، وبهدف اجتثاث المليشيات الإيرانية مترامية الأطراف هناك، ولمتابعة ومعاقبة تحركات عناصر (حزب الله) كذلك. وتواصل روسيا صاحبة الولاية الثانية في سوريا بعد إيران ملاحقة عناصر عصابة (داعش) الإرهابية المنبثقة عن تنظيم (القاعدة) الأكثر إرهابا، ومع هذا وذاك لازالت عصابة (داعش) ومعسكراتها في سوريا إلى جانب المليشيات الإيرانية تشكل مصدر قلق وتهديد للحدود الأردنية شمالا، التي تحميها وترعاها قواتنا المسلحة الأردنية الباسلة – الجيش العربي وأجهزتنا الأمنية الموقرة الساهرة على أمن الوطن على مدار الساعة.
وفي شأن القضية الفلسطينية العادلة، والواجب أن تصل لمرحلة بناء الدولة الفلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشرقية وفقا لأوراق الأمم المتحدة ومجلس الأمن، استمرت أمريكا تراوغ خدمة لإسرائيل، ولكي لا تقوم دولة فلسطين بعاصمتها القدس الشرقية، ولكي يقبل الفلسطينيين والعرب حل الدولة الواحدة العنصرية وغير الحضارية، ولكي تتفرغ إسرائيل في بناء المزيد من المستوطنات اليهودية غير الشرعية فوق الأراضي العربية المحتلة عام 1967، والقضية الآن أمام طريق مسدود. وفي المقابل وقفت روسيا الدولة العظمى المعارضة للتوجهات الإسرائيلية الاحتلالية وتحت مظلة الدعم السياسي والمالي الأمريكي والأوروبي ضد صفقة القرن صنيعة الاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية المشتركة، والتي هدفت لإحباط قضية فلسطين ومشروع دولتها بعاصمتها القدس الشرقية وواصلت مطالباتها علنا بالحقوق الفلسطينية كاملة، وتجميد المستوطنات والمحافظة على الوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس، رغم العلاقة الاستراتيجية مع إسرائيل.
وفي موضوع الأزمة الأوكرانية مع روسيا الاتحادية منذ الانقلاب الأوكراني عام 2014 ليس على فيكتور يونوكوفيج فقط وإنما على أوكرانيا نفسها التي خسرت إقليم شبه جزيرة (القرم)، وشرق أوكرانيا (الدونباس ولوغانسك)، ومادة الغاز الروسية بأسعار تفضيلية بحكم الجيرة والنسب وروابط الأخوة والعائلة الواحدة، واللغة الروسية في الجانب الغربي (البنديري)، والارتباط دينيا مسيحيا أرثوذكسيا مع الكنيسة الأم في موسكو، والاستفادة من المواصلات مع روسيا وفي مقدمتها شبكة القطارات، والدراسة في المعاهد والجامعات الروسية مجانا، مقابل إدارة الظهر لروسيا الشقيقة والتاريخ والحضارة، متناسية ظرف المجاعة الواحدة، والتاريخ المشترك في الحرب العالمية الثانية والانتصار فيها لدرجة رفع العلم السوفيتي الواحد فوق الرايخ الألماني في برلين. وتوجهت أوكرانيا (كييف) للاقتراب من الغرب، ومن الاتحاد الأوروبي تحديدا الذي لا تمانع روسيا الاقتراب منه، ولتقريب حلف (الناتو) العسكري منها، وهو الخط الأحمر لسيادة روسيا، فمن يكتب السيناريو في (كييف) إذن؟
الأصل أن الرئيس فلاديمير زيلينسكي، الفنان، والكاتب المسرحي، ومعه النخبة السياسية الأوكرانية المحسوبة على التيار البنديري المتطرف هم من كتبوا، ويواصلون كتابة السيناريو الأوكراني الجديد بعد عام 2014 على طريقة رواية (الحرب والسلام) لليف تولستوي في القرن التاسع عشر، التي صور فيها هزيمة نابليون بونابارت ,أو أخذ العبرة من هزيمة أدولف هتلر الساحقة في الحرب العالمية الثانية التي ظهرت عام 1945، وزيلينسكي الذي يرغب ونخبته السياسية بتقديم الحرب على السلام، ولا يؤمن بالحوار المباشر مع شرق بلاده أوكرانيا، و مع روسيا الاتحادية راعية الشرق نفسه لوجود حوالي 800 ألف مواطن روسي هناك بالقرب من حدودها، ولكون أن الشرق الأوكراني موالي لروسيا، وراغب بالانفصال عن سياسة غرب أوكرانيا وليس عن أوكرانيا السيادة، وأعلن ذلك، ويطالب بالحكم الذاتي، فأن زيلينسكي وحكومته ونخبته السياسية سلموا كتابة سيناريو ضم شرق أوكرانيا و بسط السيادة الأوكرانية بقوة السلاح لأمريكا، ولحلف (الناتو) وبطبيعة الحال لهما مصلحة مشتركة بنشر سلاحهما الثقيل بالقرب من الحدود الجنوبية لروسيا، ولتصبح صواريخهم النووية الباليستية وسط الحرب الباردة، كما يقول الرئيس بوتين على مسافة خمسة دقائق عن موسكو، والذي لا تقبل به روسيا تحت طائلة المسؤولية القانونية، والرد السريع المماثل. ولا رغبة لروسيا، ويقولونها صراحة وعلنا باجتياح أوكرانيا، وبأن كل ما يشاع حول ذلك يدخل في إطار الفوبيا الروسية المبرمجة وسعير الحرب الباردة وسباق التسلح، وفي مقدمتها البدء بسحب دبلوماسيين السفارات من (كييف)، ومن بينها كوادر سفارة كندا، والمستقبل القريب شاهد عيان.
وأخيرا هنا وليس آخرا، ما لفت انتباه العالم مجددا، هي الزيارة التي قام بها سفير الولايات المتحدة الأمريكية في موسكو (جون ساليفان) للخارجية الروسية بتاريخ 26 يناير الجاري 2022 لتسليم رد مطبوع على اقتراحات روسيا بشأن الانتشار النووي لحلف (الناتو) الذي تقوده أمريكا وبما يضمن سيادة روسيا الاتحادية وأمنها القومي، وهو الذي وصفه سيرجي لافروف وزير خارجية روسيا بالمخجل، وهو الذي لم يجيب على أسئلة روسيا التي شرعت في دراسة البحث عن قواعد عسكرية جديدة رادعة منها في فنزويلا، والتباحث حول أوكرانيا. دعونا نتأمل !!