أنا في حالة ذهول ، فجأة ودون سابق تنبيه ، تحول كثير من سكان الأردن إلى سماسرة ، حين أقول "كثير" لا أقصد التبعيض ، بل لاستثناء نفر قليل ليس لهم مهارات السمسرة أو أنهم ضجرون من كل شيء مثل محمد طمليه مثلا ، أما البقية فهم سيدات أعمال ومنازل ورجال وقورون وصعاليك (مؤكد أن منهم شعراء تفعيلة،) شيب وشبان ، أغنياء جدا يطمحون في مزيد من الثراء الأسطوري ، وفقراء معدمون يحلمون بصفقة سحرية تنقلهم إلى مصاف الطبقة الوسطى التي غادرها أهلها وانضوت غالبيتهم الساحقة تحت علم الأقل حظا ، فيما قفزت قلة قليلة إلى أعلى بسبب السمسرة أيضا ، أو ضربة حظ ، أقصد ضربة أرض ارتفع سعرها فجأة إلى مليون ضعف،
في تمرين حي على التفكير الافتراضي ، قفز أحدهم في جلسة سيطرت عليها سيرة صفقات البيع والشراء ، قال أحدهم: ماذا لو انفرجت عُقد السياسة في بلادنا وبدأ تطبيق "حق العودة".. ماذا سيحل بالمليارات التي وُضعت في التراب جراء شراء أراض في كل المناطق كانت لا تساوي شيئا؟ رد عليه آخر بذعر: فال الله ولا فالك، قال أحدهم: أنا نازح ، ضحكت ، وأنا أنظر إلى قصره الباذخ الذي لا يزوره في العام إلا بضعة أيام ، استدعيت على الفور منظر بيت جاره المتواضع جدا وهو من سكان القرية الأصليين الذين هجم عليهم "عًلية القوم" فأشعلوا أسعار الأراضي ، وقلت لجاري: من النازح.. هذا المليونير أم جاره الذي أصيب بصدمة الاشتعال إياها ولا يدري ما يفعل ، بعد أن أصبح هو وجيرانه نازحين في قريتهم ، أو قل أقلية معزولة،؟ لأعترف أنني شعرت بغثيان ، فكلما "انحرف" الحديث - في أي جلسة - إلى موضوع بعيد عن أسعار الأراضي وقصص الثراء السريع ، عاد الحديث إلى الصفقات والبيوع والسمسرة إياها ، ما راعني هنا شيوع "أخلاق" السماسرة و"الكوموشين"..
فحتى وقت قريب كانت صورة السمسار في ذهني أقرب إلى الشتيمة ، وكان يقال عن فلان انه سمسار للنيل من أخلاقه ، ثم تحولت النظرة الأخلاقية فأصبح السمسار ذكيا وصيادا ماهرا وكسيبا ، ويركب سيارة فارهة بنت سنتها ويلعب بالمصاري ، بل أصبح الوصول إلى "مرتبة" سمسار حُلما يداعب الراغبين في حرق المراحل والتحول الطبقي بسرعة الضوء ،
ليس لدي أي اعتراض أو تحفظ على امتهان السمسرة ، فهي مهنة "محترمة" الآن ، ولكنني قلق جدا على شيوع أخلاق العمولات و"الكوموشين" فالمسألة في كنهها تقاضي مبالغ مالية مقابل خدمة ، وامتداد هذه الفلسفة إلى بقية مظاهر الحياة اليومية يهدد بتحويل أي خدمة يمكن أن يقدمها شخص لشخص آخر إلى منفعة مباشرة ، حتى بين الأم وابنها ، والأخ وأخيه ، فما بالك بالعلاقات الأبعد؟ ما يذهلني حجم انخراط طبقات الناس كافة في هذا الأتون ، كأنها حُمى أو مرض وبائي سريع الانتشار. ربما ينظر البعض باستهانة إلى هذا الأمر ، لكن مفاعيله الأخلاقية والاجتماعية أخطر بكثير مما يتصور هؤلاء ، فحين يتحول المواطنون إلى سماسرة ، لنا أن نتخيل أي مصير ينتظر الوطن المُسَمْسَر عليه،
al-asmar@maktoob.com