يصعب قراءة ملف شبه جزيرة القرم من زاوية حقبة زمنية واحدة، وإلا لتم تفسير وضعه الحالي بعدة تفسيرات، ومنها ما اعتبر احتلالاً، فللقرم تاريخ عريق تمتد جذوره إلى عمق اليونان والرومان والإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الروسية، والاتحاد السوفيتي، والحقبة الأوكرانية (60) عاماً، ثم الحقبة الروسية المعاصرة الحالية. والأهم هنا، هو أن الإمبراطورية الروسية في عهد يكاتيرينا الثانية نجحت في معركتها عام 1783 في ضم القرم، وواصل اعتباره سوفيتيا منذ عام 1922 وحتى عام 1956، عندما قرر الزعيم السوفيتي نيكيتا خرتشوف ضمه إلى أوكرانيا لأكثر من سبب من أهمها كونه أوكراني الجذور، ولحاجة السوفييت وقتها لإطلاله على المياه المرتبطة باليابسة، وكانت قيادة الاتحاد السوفيتي لجمهورية روسيا وعاصمتها موسكو، حتى أن اقتصاد السوفييت تم توجيه انتاجه للعاصمة موسكو وللمدن الكبيرة المجاورة مثل ليننغراد، والأبعد جنوبا مثل روستوف. واستمر إقليم القرم في حوزة أوكرانيا حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، وواصل حضوره الأوكراني حتى عام 2014، وهو عام الانقلاب على نظام فيكتور يونوكوفيج من قبل النخبة السياسية والاقتصادية الأوكرانية المرتبطة والموالية للتيار البنديري المتطرف القادمة جذوره من أتون الحرب العالمية الثانية، وتحديداً من وسط الجناح المتطرف الملتصق أيدولوجيا بالنازية الهتلرية والتاريخ شاهد عيان.
والانقلاب الدموي ذاته وضع حدا لكل ماهو روسي وأوكراني (سياسي ودبلوماسي واقتصادي وديني ولغوي وثقافي، وعلى مستوى السياحة والمواصلات)، والعلاقات بينهما في الحاضر لم تعد تشبه الماضي وبكامل عمقه السوفيتي (العائلة الواحدة، والجيرة، والحدود الآمنه، والتاريخ المشترك في المجاعة الواحدة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وفي الحرب العالمية الثانية (العظمى) 1941 1945، وصناعة القنبلة السوفيتية النووية الواحدة الرادعة للتحالف الغربي لاحقا منذ عام 1949، ومواجهة الفوبيا الروسية الواحدة منذ القرن الخامس عشر كما ذكر لنا البروفيسور يجيسلاف نيكانوف النائب والسياسي المعروف رئيس صندوق "روسكي مير"، والحرب الباردة وسباق التسلح المشترك مع الغرب الأمريكي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي 1991)، والأهم بالنسبة لأوكرانيا هو سحب روسيا الاتحادية بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين لشبه جزيرة القرم ذات الموقع النووي الاستراتيجي بوجود الأسطول الروسي في مياه القرم على شواطيء البحر الأسود، عبر صناديق اقتراع القرم نفسه وبنسبة مئوية وصلت إلى 95%، وبعد موافقة مجلس الدوما الروسي (النواب والأعيان) وقصر الكرملين الرئاسي وقتها.
وتغير وجه أوكرانيا السياسي، وانقسم إلى غرب حاكم في العاصمة (كييف) وفقير يعاني من التضخم المالي يدعو مواطنيه للتجنيد الإجباري، ويحفر الخنادق ليوم اجتياح الشرق، وإلى شرق من (الدونباس ولوغانسك) كادح وأشد فقراً، ويتمسك باللغة الروسية ولولائه لروسيا الجارة التاريخية ويقتني السلاح الخفيف والسوفيتي القديم الرادع، وتحرسه روسيا بقوة القانون وعبر إتفاقية (مينسك) لعام 2015، ولا تسمح لغرب أوكرانيا بالتغول عليه بقوة السلاح وبوجود قاعدة عسكرية أمريكية، وتدعو الطرفان غير المنسجمان والمتحاربان للحوار أولا وأخيراً وللأبتعاد عن التخندق غير المسؤول.
ومن الممكن القول هنا وقبل العروج على الدول التي عارضت ضم أو إعادة (القرم) لعرينه روسيا الاتحادية، بأن أوكرانيا خسرت عدة محطات على طريق المحافظة على سيادة دولتها، فحرب روسيا القيصرية التي انتصرت فيها على الامبراطورية العثمانية أعطت إشارة مبكرة على شرعية القرم لروسيا، وأثارت حفيظة تركيا وحتى اليوم، حيث نراها تقف مع سيادة القرم لأوكرانيا من زاوية خسران حرب عام 1783، وموضوع ضم نيكيتا خرتشوف للقرم داخل السيادة الأوكرانية كان برعاية روسية وتجاوز حدود انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 واستمر حتى عام 2014، وتعتبر روسيا بوتين بأن الانقلاب ما كان له أن يحصل بسبب إصغاء الرئيس فيكتور يونوكوفيج لمطالب الأوكران بالانضمام للاتحاد الأوروبي، وهو الذي لم تعارضه روسيا الاتحادية المعاصرة، وتوجه أوكرانيا الجديدة بقيادة النخبة السياسية الصاعدة، مثل بيتروباراشينكا وفلاديمير زيلينسكي صوب التحالف مع حلف (الناتو) العسكري قصمت ظهر البعير، وعمقت هوة وفجوة العلاقات الروسية – الأوكرانية حتى الساعة، ورفض غرب أوكرانيا لاتفاقية (مينسك) الضابطة للسلم الأوكراني - الأوكراني ومع جارة التاريخ روسيا، وإلى جانب خسران أوكرانيا اتفاقية الغاز مقابل تأجير الأسطول الروسي النووي للمكوث في المياه الأوكرانية 25 عاما زاد الطين بله، وتوجه روسي بمادة الغاز إلى أوروبا مباشرة عبر مشروعها غاز(2)، ولاتسمح روسيا بصفتها المعاصرة الآن بدخول حلف الناتو الى الأراضي الأوكرانية المجاورة من زاوية استراتيجية عسكرية وأمنية، وحفاظاً على أمنها الوطني والقومي وعلى سيادة دولتها العملاقة مساحة (أكثر من 17 مليون كلم2، وعسكرة فوق النووي وفوق الصوتي والفضائي والبحري). ودعوة مبكرة من طرف الرئيس الروسي بوتين وجهها لزيلينسكي لزيارة موسكو وكانت بتاريخ 22 نيسان2021، تبعها دعوة مماثلة من طرفه لزيلينسكي وبواسطة الرئيس البيلاروسي لوكاشينكا، قوبلتا من طرفه بعدم الاهتمام، ودعوة حديثة وجهها الرئيس التركي محمد رجب أوردوغان لترتيب زيارة لتركيا لكل من الرئيسين بوتين وزيلينسكي بتاريخ 19 يناير 2022.
ولقد تحركت أمريكا مبكرا ووضعت عينها على الملف الأوكراني برمته، وعلى كل ماله علاقة بالجناح الشرقي منه (الدونباس ولوغنسك)، على إقليم شبه جزيرة القرم، ومن زاوية مصلحتها القومية الاستراتيجية عبر استمرار قيادتها للحرب الباردة وسباق التسلح مع روسيا الاتحادية تحديدا، وكما هي قناعتي الشخصية أقول هنا، بأن الدولة العظمى التي تستهدف روسيا العظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، إنما هي تستهدف أمن العالم، والدولة العظمى مثل روسيا الاتحادية التي ترنوا لبناء التنمية الشاملة عالميا، إنما هي تحرص على أمن العالم، وعملت أمريكا على تحريض أوكرانيا بداية على المطالبة من روسيا الاتحادية بجعل الاستفتاء على القرم ليس في إطار الإقليم، وإنما على مستوى مساحة أوكرانيا غربا وشرقا أيضا ، (أي على أكثر من 6 الاف كيلومتر مربع، وعبر أكثر من 42 مليون نسمة)، بهدف تشتيت أصوات القرم، ولإستنهاض الغرب الأوكراني المعارض لكل ماهو روسي، ولتصفية حسابات أمريكا مع الأسطول النووي الروسي هناك، واستمرت تحرك حلف (الناتو) في مياه البحر الأسود، وفي مياه اليابان، وتتحرش بالحدود البرية الروسية الغربية قبل جنيف (1) وحتى بعد جنيف (2).
والرابط المشترك بين تركيا وأذربيجان في موضوع القرم هو أزمة (غورني كاراباخ) ووقوف تركيا إلى جانب أذربيجان في مواجهة أرمينيا وتحالفها مع روسيا، إلى جانب الامتداد التتري، وجسر روسي عملاق بأمر من الرئيس بوتين أصبح يربط بين مدينة كراسنادار ومنطقة كيرتش في القرم بطول 19 كلم وبتكلفة وصلت إلى 3.6 مليار دولار، وخط قطارات حديث يربط بين موسكو وسانت بيتر بورغ وسيمفيروبل بالقرم يتسع لأكثر من 14 مليون إنسان، ويخدم السياحة الداخلية والاقتصاد، والملاحظ هنا ومن دون حاجة للتجني على أوكرانيا صديقة العرب أيضا كما روسيا الاتحادية، فإن البنية التحتية في الحقبة الأوكرانية كانت ضعيفة ومتراجعة.
ومن الجدير بالذكر هنا، أن 19 دولة غربية أدانت ضم روسيا الاتحادية للقرم، وطالبت بالمحافظة على سيادة أوكرانيا بعد جلسة لمجلس الأمن في النيويورك، وهذه الدول هي (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وأستراليا وبلجيكا وبلغاريا وكندا والتشيك وإستونيا وجورجيا وإيرلندا ولاتفيا وليتوانيا وهولندا والنرويج وبولندا وسلوفاكيا وأوكرانيا)، لكن السيادة الحقيقية المعاصرة مستمرة لروسيا الاتحادية التي لم تُصغ للتجييش الدولي ضد قرارها بضم القرم، متسلحةً بالقانون وصناديق الاقتراع، وبقوة صوت مجلس الدوما (البرلمان والأعيان)، إلى جانب صوت قصر الكرملين الرئاسي في موسكو، وبحضور شخصية رئاسية فولاذية كما بوتين، وغيرها، مثل مساعده أوشاكوف ولافروف وزير الخارجية، ووزير الدفاع شايغو.