معضلة الثلثين .. بين الإحباط والانخراط
د.عمر الرزاز
23-01-2022 10:51 AM
نبدأ هذا المقال من حيث انتهينا في المقال الأول. فالمقال الأول تطرق بشكل أساسي إلى أهمية انخراط الشباب في ممارسة المواطنة وفي العملية السياسية تحديداً وتحقيق ذلك فعلاً عن طريق الممارسة على الأرض. ولكن علينا أن نعترف بأن نسبة انخراط المواطنين بشكل عام والشباب بشكل خاص محدودة، بل ومتدنية، وتشير إلى مجموعة ظوهر خطيرة إذا تركناها لتنمو وتتفاقم.
ما هي “معضلة الثلثين؟” هي معضلة عدم مشاركة ثلثي المواطنين في الحياة العامة. والتي تأخذ أشكالا اجتماعية واقتصادية وسياسية مختلفة وبنسب قد تختلف حسب المنطقة والفئة العمرية وغيرها من العوامل.
في الجانب الاقتصادي، ثلثا مواطنينا ممن هم في سن العمل لا يعملون. في الجانب الاقتصادي أيضا، ثلثا المستثمرين ليسوا متفائلين بالمستقبل وثلثا المواطنين يشعرون بالقلق حول مستوى دخلهم في المستقبل. أما في الجانب السياسي، فأكثر من ثلثي المسجلين لم يشاركوا في التصويت في الانتخابات النيابية وانتخابات مجالس المحافظات الأخيرة. ونفس النسب تظهر حول مستوى التشاؤم حول المستقبل وأيضا مستوى الثقة بالمجالس النيابية والحكومات المتعاقبة.
ولكن الملفت للنظر، وربما الأخطر، أنه إذا نظرنا الى التباين بين الفئات العمرية، فسوف نجد أن الشباب بشكل عام أكثر تشاؤما من المعدل العام، وخصوصاً فئة الشباب في سن 25-35، أي بعد انتهاء مرحلة الدراسة الجامعية (فمثالاً نسبة المتفائلين بتطبيق مخرجات اللجنة الملكية يهبط من 46 بالمائة للفئة العمرية 18-25 الى 22 بالمائة للفئة العمرية 26-30. أما الثقة بأن “العمل الحزبي سيكون عنوان المرحلة القادمة فلا يتجاوز 38 بالمائة من فئة 18-25 ثم يتراجع تدريجيا ليصل الى 25.5 بالمائة لفئة الأعمار31-40.
هذه الفئة غالبيتها لا تزال خارج سوق العمل، مما ينعكس سلباً أيضا على فرص الزواج وتكوين الأسرة وطبعا على الانخراط الايجابي في الحياة العامة ويفضي الى حالة التشاؤم العام حول المستقبل. ففرصة العمل الأولى هي مدخل الشاب والشابة للانخراط الحقيقي في الحياة العملية.
لكن سوق العمل وعلى مدى سنوات من النمو الاقتصادي المتواضع في ضوء الظروف المحلية والإقليمية لم يخلق فرص عمل كافية لاستيعاب الداخلين سنويا الى سوق العمل من خريجي جامعات ومعاهد ومدارس. في المحصلة نجد أن نسبة المشتغلين الى السكان في سن العمل في الأردن لا تزال من أدنى النسب عالميا.
هذه الأرقام الموثقة من مصادر رسمية لا تؤشر الى ظاهرة جديدة، فقد تراكمت على مدى سنوات طويلة، وهي موجودة بحدود مختلفة في منطقتنا العربية وفي العالم.
إن التعامل مع الثلثين يتطلب التعرف على الثلث الذي لازال منخرطاً. هذا هو الثلث الذي لم يفقد الأمل، ليس لأنه ساذج بل لأنه لا زال يؤمن بالمستقبل. هذا الثلث لم يبق متفرجاً منتظراً. فقد سعى ولايزال لإيصال صوته وإصراره على المشاركة الفاعلة والإيجابية في القضايا العامة، والتطوع والمبادرة على المستوى المجتمعي، والحصول على فرصة عمل أو المبادرة الى عمل مشروعه الخاص.
وغني عن القول أن جائحة الكورونا شكلت تحديا جديدا وخطيرا للاقتصاد ككل وخصوصاً قطاع الاعمال الصغرى الناشئة في الأردن كما في العالم.
أما “المعضلة” فتكمن في أن نسبة الثلثين في تزايد مستمر على مرّ السنين وتشير الى ظواهر متعددة تعكس حالة الاحباط والتشاؤم وفقدان الثقة التي تقود في المحصلة الى شعور باليأس والمظلومية. هذه الحالة خطيرة إذا ما تركت من غير علاج.
ليس هناك برزخ فاصل بين الثلثين المحبطين والثلث المنخرط. بل هو مد وجزر، يرتفع وينخفض مع كل خبر يدفع الإنسان الى التفاؤل أو التشاؤم وكل دور فاعل يمكن أن يلعبه في حياته أو حياة غيره. ولكن مع مضي الوقت يفقد الانسان مهارات شخصية حياتية ومهنية، ويصبح من الأصعب فالأصعب الانتقال الى حالة الانخراط والمشاركة، وإذا استمر الحال يصبح الانسان أكثر عرضة لأمراض صحية ونفسية، ويتحول الاحباط الى شعور باليأس والمظلومية، والإقبال على الفكر المتطرف وإدمان المخدرات.
وقد استشهد عدد من خيرة شبابنا خلال السنوات الماضية دفاعاً عن الشباب الأردني من آفة المخدرات وآثارها الكارثية على المجتمع وسيبقى شهداؤنا الأبرار في القلوب خالدين في ذاكرة الوطن.
هذه الظاهرة خطيرة بكل الأبعاد، تشكل تحدياً وجوديا وفرصة استثنائية في نفس الوقت. ولا سبيل الى حلها من خلال مبادرات مجتزأة. مواجهة التحدي واقتناص الفرصة يتطلب منظومة متكاملة تدعم الثلث المنخرط وتوسع دائرة المشاركة السياسية والاقتصادية أكثر فأكثر للثلثين المهمشين.
هذا التحدي تحول الى فرصة حقيقية تمثلت بتوجيهات جلالة الملك الى اللجنة الملكية بإيلاء موضوع المشاركة السياسية للمرأة والشباب الأولوية. ومثلت مخرجات اللجنة من مقترحات لتعديل الدستور وقانوني الأحزاب والانتخاب ترجمة دقيقة لهذا التوجيه.
ولكن متطلبات النجاح على الأرض تتطلب دعم مشاركة الشباب في تفعيل مجالس الطلبة في المدارس والجامعات وترشحهم في المجالس البلدية ومجالس المحافظات وتمكنهم من المشاركة بالحياة الحزبية.
وهنا من المهم الإشارة الى ان الهدف من تعديل سن الترشح للانتخابات النيابية الى سن الخامسة والعشرين ليس المتوقع منه ادخال العديد من هذه الفئة العمرية الناشئة فوراً الى مجلس النواب (كما يدعي البعض) بل انخراط الشباب بشكل مبكر ومشاركتهم بالانتخابات مع إمكانية الترشح أيضا حيث تشكل بحد ذاتها حافزاً للانخراط.
أما في جانب الانخراط الاقتصادي، فنحن بحاجة الى منظومة متكاملة تركز على التشغيل والريادة وتعالج جانبي العرض والطلب في سوق العمل.
هذه المنظومة بدأت معالمها وبرامجها بالظهور ابتداء من المدرسة وحتى سوق العمل من خلال التدريب المهني والتقني، والمخيمات الصيفية (بصمة) التي تبني مهارات التطوع العمل في الفريق وتنمي الإبداع العلمي والفني من خلال البرامج التفاعلية، وينتقل الى المعاهد والجامعات ببرامج تدريب عملية ونشاطات تطوعية، وتنتقل الى برنامج خدمة العلم الذي تم إعداده بالكامل وبحلة جديدة تشمل زرع القيم الوطنية العليا والانتماء والعطاء والعمل بالفريق، واكتساب مهارات مطلوبة في سوق العمل، والتدريب في مواقع العمل.
والبرنامج يأخذ صفة إلزامية للعاطلين عن العمل دون سن الخامسة والثلاثين هذه البرامج تعثر الاستمرار بها بسبب جائحة الكورونا ولكن من الضروري إطلاقها فور تحسن الوضع الوبائي.
هذه البرامج بمجلها تشكل منظومة “التحول من الدراسة الى العمل”، وهي موجودة وأساسية لدى كافة دول العالم التي تمكنت من خفض نسب البطالة بين الشباب. ولكنها لن تنجح الا إذا اكتملت بسياسة اقتصادية واضحة تحد من استقدام العمالة الوافدة، وتعنى بجانب الطلب على العمالة الأردنية من خلال تشجع القطاع الخاص الصناعي والتجاري والزراعي على تدريب الشباب في مواقع العمل، وتقديم الحوافز المباشرة والضريبية لإحلال العمالة الأردنية مكان الأجنبية، والاستمرار بتمويل الصناديق والبرامج الداعمة للمشاريع الصغيرة والريادية.
(للأسف الشديد، وبعد خطوات مهمة في اتجاه وقف استقدام العمالة الوافدة، شهدنا تراجعا يفتح باب استقدام العمالة ويخفض الرسوم ويغرق السوق بعمالة ستحل هي محل العمالة الأردنية).
ليس لنا أن نطالب شبابنا وشاباتنا بنبذ اليأس والإحباط وبالاعتماد على أنفسهم والتغلب على التحديات بدون أن نسعى معهم لإزالة العراقيل وتمهيد الطريق لمشاركة فاعلة وواسعة في الحياة السياسية والاقتصادية. وهذا لا يتم الا من خلال منظومة متكاملة للتمكين السياسي من خلال التحول الديمقراطي بالتوازي مع منظومة متكاملة للتمكين الاقتصادي المتمثل بنمو الاقتصاد وتشغيل الأردنيين.
نشهد اليوم بدايات هذه المنظومة المتكاملة. الطريق صعب وطويل ولكن لا خيار لنا الا أن نمضي قدماً.
كرئيس وزراء سابق، أنا لا أكتب كمحلل أو مراقب حيادي. فأنا كما غيري من أصحاب الدولة والوزراء والمسؤولين السابقين واللاحقين، حاولنا دفع عجلة الإصلاح الاقتصادي والسياسي، فاجتهدنا، فأخطأنا هنا وأصبنا هناك، ونتحمل مسؤولية التراكم الذي وصلنا إليه اليوم بما له وما عليه. أما الأهم فهو تقييم واقع الحال واستلهام الدروس والعبر والمضي قدماً. وهذا ما أسعى إليه في هذه المقالات، والله من وراء القصد.
الغد