كنت طفلاً واتذكر المشهد بتفاصيله, لعبت مع صديقي الذي كان في نفس (الرحلاية) معي... والذي هجر الشعبة (ب) وجاء إلى الشعبة (ألف)، حتى نبقى سوياً, وكنا نتقاسم (السندويشة), ونسرق (الطبشور).. ونصنع من أغصان الأشجار خيلاً... ونعشق تسلق الأسوار العالية..
ما زلت أتذكر المشهد, لم نصل بعد التاسعة من العمر كنا في الثامنة, وكانت الناس تأتي لمنزلهم وتخرج, ثم تحضر إلينا وتقبله.. وبعضهم كانوا يقبلونني أنا، والبعض كان يضع في جيب صديقي الدنانير... كان الدينار بالنسبة لنا مبلغاً ضخماً جدا, لدرجة أننا لم نعرف أين نضعه.. ولم نعرف ماذا سنشتري به؟ ولكننا احتضنا (الطابة) وجلسنا على الرصيف.. وصرنا نوزع بيننا ما نجنيه, كنا نظن أن الناس يدفعون لنا ثمن القبلة.. وأنا كنت أغار منه لماذا يقبلونه أكثر مني؟ ولماذا كل النقود تذهب إليه؟..
صديقي.. ماتت أمه, هو لا يعرف معنى اليتم بعد... ولا أنا فهمت المشهد, كانت الناس تأتي لمنزلهم تحت وقع الخبر الفاجع, وهو كان يظن أنهم يريدون زيارة أمه المريضة فقط... لم يكن يدري أنها ماتت, وأنا لم أكن أفهم معنى الموت... سمعناهم يقولون: (الله يرحمها)... كان همنا في تلك اللحظة حجم ما نجنيه من نقود, وحجم ما نحصل عليه من قبلات...
بعد ذلك تسللنا خلف منزلهم, أخبرني بأنه يحتفظ بعلبة (تنك) قديمة, يخفي فيها بعض الأشياء الخاصة به.. وانا أقنعته أن الناس قد تطلب استرداد النقود التي اعطوها اياه, ولا بد من اخفائها... وفعلاً أخرجنا العلبة, وكانت تحتوي على بعض الكرات الزجاجية, (ولوكس) لا يعمل.. ونظارة شمسية محطمة العدسات, المهم أخفينا ما جنيناه من قبلات الناس وخرجنا متسللين من جانب غرفة..
شاهدت امه من خلف الشباك, وهو شاهدها.. كانوا يضعونها في تابوت, وكانت بعض النسوة تنثر عليها العطر, ما زالت رائحة العطر في أنفي, وهو شاهدها.. ولم يفهم المشهد وأنا لم افهمه أيضاً, كانوا يجهزونها كي توضع في سيارة الإسعاف وتنقل للمسجد.. أنا شاهدت التابوت... لكن همنا كان أن نعود إلى نفس المكان, كي نتلقى المزيد من القبل ونحصل على المزيد من المال..
حين جلسنا.. على الرصيف قال لي: (أمي نايمة.. صح؟) كأن قلبه التبس عليه.. أو أن المشهد لم يكن سوياً, وأنا اجبته: (نعم نائمة.. وراحوا ايجيبولها الدكتور).. ثم عدنا كي نلعب في (الطابة).. لكن أقدامنا لم تعد تجرؤ على قذفها مثل قبل.. كأننا نعرف الحقيقة ولكن طفولتنا ترفض أن نقتنع بها, لأن الأم لا تموت... بتفكيرنا.
أسوا شيء في العمر هو هذا الالتباس الذي يحدث لك في الطفولة, وما أسوأ منه أن تغتالك براءتك.. لقد غاب عن صديقي حقيقة وفاة أمه المريضة.. واستولى علينا اللعب..
لعبنا مطولاً, والاسئلة المخبأة في القلب تذبحنا.. وصديقي ما زال يظن أنه سيعود للمنزل وستقوم أمه بغسل وجهه مثل كل مرة, وتنهاه عن اللعب مع عبدالهادي.. لأن عبدالهادي يعبث بأسلاك الكهرباء, ويتسلق الأسوار العالية.. كان يظن هكذا.
لا أريد يوماً أن أطل على عمري أو وطني من ذات الشباك, الذي نظرت عبره حين كنت في الثامنة.. أنا لا أريد ذلك أبدا, ولا أريد لصديقي الذي غادر القرية بعد وفاة أمه.. أن يطل من ذات الشباك... ولا أريد أن أعود لذلك العمر المبتلى بالحزن أبداً..
كل ما نطلبه أن تفتحوا لنا شبابيك الحياة, فقط افتحوا لنا شباكاً واحدا للحياة.. فقد تعبنا من اليتم وتعبنا كثيراً.
Abdelhadi18@yahoo.com
الرأي