رواية "خرائط التّيه": الخطف والمتاجرة بالأعضاء البشريّة
د. وصال الهويمل
22-01-2022 02:58 PM
تعدّ رواية "خرائط التّيه" - للكويتيّة بثينة العيسى- من النّماذج الرّوائيّة الجريئة؛ لمعالجتها جريمة التّجارة بالأعضاء البشريّة وشراكة بعضٍ من الأنظمة السياسيّة فيها. وقد جاءت في خمس صفحات وأربعمئة، ضمن فضاء روائيّ ممتدّ، وسرد جاذب يلامس وجدان القارئ؛ لاشتباكه مع أسئلة الحياة، وتأكيده أنّ الرّواية جنس أدبيّ مَرِن، يستوعب مجريات الواقع ومستجدّاته.
تبدأ الرواية بالحدث الذي يقوم عليه النّص، فتصوّرمشهد سيّدة كويتية تطوف بالحرم المكّي ممسكة بيد ابنها التي أفلتت منها؛ إثر اندفاع فوج من الحشود المائجة، فيتيه الطّفل عن أمّه، وتلتقطه الإفريقيّة " رُوَينا " – كما تُظهر كاميرا الحَرم- فتخدّره، وتنسلّ به إلى عُصابة التّهريب المنتظِرة في الجبال.
ومن هنا تأخذ العقدة أوجها بالتّأزّم، وتظهر الشّخصيّات ضمن رسم فنّي، يعتني بحركتها وبعديها:الدّاخلي والخارجي، فتبدو نماذج تائهة متوتّرة، يلفّها القلق والارتباك، وتتحرّك وسط عالم روائي مضطرب، يجسّد هشاشة الواقع ودمويّته. وقد يُذكر من هذه الشخصيّات: "روينا" الخاطفة التي تولّت نقل الطفل إلى "جرجس" قائد العُصابة، ليتوجّهوا به إلى سيناء عبر قوارب التهريب في البحر الأحمر.
وثمّة شخصيّة " نظام شجاع الدين الأكبر" ،عامل باكستاني في مزرعة نائية، اهتدى إليه الطفل مصادفة بعد أن ولّى هاربا أثناء الشّجار المشتعل في عتمة الليل بين أفراد العُصابة عند الشاطئ .وكان "نظام الدين" قد رعاه مأكلا ولم يراعه حرمة، فبعد أن يصلّي الفجر، ينبري لاغتصابه مراراً إلى أن صيّر أيامه عجافاً، ولم يعد قادراً على شيء؛ لذا راح يتخلّص منه ليلا في كهف مظلم، تتدلّى الوطاويط من سقفه"مثل خطاطيف سوداء تتربص به"365.وذلك بعد أن عصّب عينيه، وحشا فمه بقماش محكم بشريط لاصق.
وإزاء هذا، يفرّثانية الطفل المنهك روحا وجسدا، فتهديه الوجهة إلى مزرعة جنوب جازان، ليخبر صاحبها السّعودي الأمن، ويباشر الأخير الاتّصال بالأهل، مبلّغاً بالعثور على الطفل، وقد بان كطائرذبيح؛" إثر تعرّضه لاغتصابات متكررة.. وكثير من الكدمات ....، استغرقه الأمرثمانية أشهر حتى نطق بكلمته الأولى...."402 ولم يتعرّف على أيّ من أهله.
ولا شكّ أنّ الرواية تُدين هذا النموذج من الشخصيات " نظام الدين" ،وتستعين به؛ لتعرّج من خلاله -كما أظنّ-على ماهيّة الذّات وما يتجاذبها من عنصري الخير والشّر والمغالبة بينهما، فيتلقّفها الثّاني مطوّحا بها في مهبّ الخراب والظلام. فها هو يصلّي ثم يراود الطفل عن نفسه، فيغتصب ،ويحاول إذعانه، الأمر الذي يدعو الى القول أيضا بأنّ التّديّن الشّكلي ماهوإلّا مظهرٌ عبثيّ هُرائيّ باهت، يقود الذّات والآخَر إلى التّيهِ والضّياع.
كما تبرز شخصيّة الأم"سميّة" صابرة، تستجمع شتاتها النّفسيّ بالدّعاء واليقين، فيما يناقضها زوجها الذي بدا قانطاً "يعيش في عالمٍ موحش، مفرّغٍ من الألوهة " 403.وتسبح مخيلته بأوهام رمادية تجرّه إلى أسئلة وجوديّة كبرى، يبرزها الحوار الآتي بينه وبين زوجته:
-لازم تثق بالله
- الله؟
-إي
- نظر إليها فاغر الفم.
بس وينه؟276-
والرواية هنا -كما أرى- تدورفي بعدها العميق حول الذّات الإنسانيّة ومنعطفاتها عند المُلِمّات، لتكتشف لحظتئذ تحولّها إلى ذات جديدة، تقف على الحدّ الفاصل بين السّقوط والنّجاة،أو اليقين والإنكار، فالأب أتى لبيت الله عابدا، فأصبح منكرا وجوده، أمام وجع الخطف، في حين أنّ "سمية قد "تدروشت تماما....صارت ترى الله في كلّ مكان". 403
وبالطّبع, فإنّ هذا التحوّل يعكس قدرة الكاتبة على تطوير الشّخصيّة الرّوائية، والاهتمام بصراعاتها الدّاخليّة والخارجيّة، وفقا لرؤية النّص، و لئلّا تسير على وتيرة واحدة مملّة.
وثمّة شخصيّة "سعود" شقيق فيصل، القادم من الكويت، ليشدد أزر أخيه، حيث يرافقه إلى سيناء بعد وصول أنباء من الشرطة السعوديّة، تفيد بهروب العصابة إلى هناك .ومن خلال رحلة البحث، تكشف الرواية عن كثيرمن المخبوء، إذ يرافقهم فريق من المحققين في مديريّة أمن العريش, للتعرّف على جثّة "مشاري" بين كيمان الجثث الممزقة،وروائح اللّحم النتنة، فيجتاح الأب انهيار عصبي حادّ، يتفاقم لحظة سماع "هويشل" -أحد مهرّبي الجثث سابقا-وهو يبوح بأنّ ثمّة قيادات كبرى في الدّاخليّة المصرية شريكة مع "إسرائيل" بتجارة الأعضاء"وأنهم يقتضون مبالغ هائلة لقاء تسلمهم الجثث من إسرائيل ويقومون برميها في الصحراء" 374. كما"أنّ الأعين والأكباد وفصوص الرئة والقلوب الصغيرة قد تكون في طريقها الآن إلى أمريكا، في ثلاجات بلاستيكية صغيرة،مليئة بالثلج المبشور"381
والرواية هنا تعرّي- بجرأة - بشاعة المشهد وهوله، وكأنّها تقدّم رؤيتها حول الواقع، وما يعتريه من انهيار القيم ،وسحق الإنسان ،لتقود القارئ إلى التساؤل: كيف تمّت "حيونة الإنسان"* وإشباعه بتراكيب نفسيّة معقّدة, يظمأ فيها للدّم ،ويسرف في القتل ،وكأنّه ما زال وفيّاً بوعده ووعيده الأوّل لأخيه الإنسان:" لأقتلنّك"؟!المائدة(27).
* * * *
وتُعنى الرواية بامتداد المكان، وتنوّعه، حيث الكويت، وجازان، وعسير, ومكة، وسيناء، والعريش.(الصحراء، الكهف المظلم، مزارع نائية، مقابر الجثث المجهولة, قوارب التهريب....الخ)، وهي في معظمها أماكن مرعبة معادية، تدعم رسم الأحداث، وربّما تلمح إلى أنّ هذه التجارة شبكة أخطبوطية خطرة، قد يتورّط بها العالم على امتداد خرائطه- إن لم يراجع وعيه، ويفلح في ردم أوكارها،وتجفيف مستنقعاتها.
أمّا الزّمنُ الروائي، فهو أيّامٌ معدودات (ثلاثة أسابيع)، يُضبط بتقنيات عدّة، كالتّذكّر، والقطع السينمائي الذي يحفّزعنصر التشويق، ويخدم رؤية النص المقتضية لفت النظر لأدق تفاصيل المتاجرة بالأعضاء . فيما تبدو الأحداث دراميّة، مكثفة، متوتّرة ومتواترة، تتصاعد؛ فيتصاعد معها النّبض؛ قلقا على مصير الطفل.
وكلّ ما سبق، تنهض به لغة رقيقة رصينة، تنجو من الشّعريّة المفرطة، منها "...مدّ فيصل يده باتجاه أخيه،احتضن الاثنان بعضهما وبكيا نهاية الطفل الذي مات قبل أن يعيش...البكاء الذي غلبهما في صولات وجولات، تدفق مثل طوفان وأغرق كل شيء...تدفّق البكاء مالحا وأغرق العالم.كان يجيء في موجات، نشيج فصمت، نشيج فصمت.مرّت ساعات والاثنان يفتحان السّدود للألم؛ لكي يأتي ويأخذ مكانه الشرعيّ في المشهد...."387
* * *
وأخيراً يمكنني القول: " خرائط التيه" روايةٌ تترك أزيزها في القلب – إن جاز التعبير- قُدّمت ببناء فنّيّ عالٍ، ورؤيةٍ عميقةٍ، تفجّر لدى القارئ أسئلةً، تدقّ جدارَ الصمتِ البائس عن واقعٍ ٍيمجّد الحزن والقهر، ويجود بالموتِ والازدراء، فيرمي بسواده على أقاصي الروح، لتغدو موطنَ نَزفٍ ووجع.
* حيونة الإنسان : كتاب للكاتب ممدوح عدوان