مسار الشتاء بفيضة الضاحك (صور)
عبدالرحيم العرجان
22-01-2022 12:01 PM
مسارات كثيرة لا تكتفي بزيارتها مرة واحدة أو موسم معين لاختلاف الطبيعة وتجددها من فصل إلى آخر.
غادرنا عمان بدعاء الأهل بالسلامة حيث كان المنخفض القطبي يجود منهمراً بخير السماء إلى فيضة الضاحك في البادية الشمالية الشرقية بعد دراسة مستفيضة لحالة الطقس وبعد تأكدنا من محدودية المطر هناك ودرجات الحرارة، وما يتطلب ذلك من مستلزمات وتجهيزات احترافية لمسار ومبيت ليلة، ويومين بإجازتنا الأسبوعية التي نحرص دوماً أن يكون فيها مسار جديد مهما كانت الحالة الجوية بعد توخي شروط السلامة العامة واختيار الأدوات المناسبة.
وصلنا مدخل المحمية المصنفة من الاتحاد الدولي لصون الطبيعة ومواردها، عبر الشارع المحاذي للمعبر الحدودي العمري مع المملكة العربية السعودية، وقد تراكمت على جانبيه كميات هائلة من مخلفات الأنقاض والردم الملوث للبيئة وما بعدها، متجاوزين كل المرامل والكسارات سيراً على الأقدام، والتي تطحن بأسنانها رمال المكان لاستخدامه في مصانع الزجاج، ولوجود خام السيليكا فيه وهو مطلوب بكثرة في الصناعات التكنولوجية، مع خشيتنا أن يمتد ذلك لقلب المحمية وكنهزها البيئي الثمين ضمن حوض الحماد.
وبعد أن سلمنا صديقنا متاع ليلتنا لنقلها لنقطة التخيم بسيارته ذات الدفع الرباعي، أخذنا حاجيات الطريق من طعام خفيف وشراب على أن نلتقيه عند نقطة محددة قبل الغروب، متجهين نحو الغرب بمحاذات الحيد، متخذاً الشكل القوسي الذي كان حامياً لنا من ريح المنخفض العميق بمعظم المسار، ولوضوح المعالم لا يحتاج إلى ترسيم بل بالاكتفاء بتثبيت نقطتيّ البداية والنهاية لتشابه التضاريس وتجانسها خشية من خداع البصر المعروف بتلك التضاريس للغريب.
أما الأدوات فهي كانت قناع كامل للوجه ونظارة مناسبة ذو الجوانب المغلقة للحماية من ذرات الرمل المتطاير، إضافةً لوجود الملابس العازلة للبرد بتقنيات حشوات ريس البط أو نقاط القصدير المصنفة، وهي الأجود حسب التقييمات العالمية للمحافظة على دفء الجسم من درجة الحرارة التي تقارب الخمس درجات مئوية وسرعة ريح قد وصلت إلى 32 كم/ ساعة، وهو ما كانت تبينه لنا التطبيقات الجوية قبل الرحلة.
وصلنا متحف متكامل لجيولوجيا الطبيعة حيث تكوّن لهبوط محدود في قشرة الأرض نتيجة ذوبان طبقات ملحية بعد انحسار ماء البحر القديم، بفارق ارتفاع خمسين متر بين قمة الحيد 558 م والقاع 510م، أما جانبه الشمالي فهو اخفض من الجنوبي بأربعة أمتار وبذلك يكون مسطح الجنوب الملاذ الآمن في حال أتى سيل على حين غرة من بين الشعاب، والجروف المحيطة "تحديدا بعيداً عن منطقة الشبه خضراء" مرعى الجمال والإبل.
كما تعتبر الفيضة مقصداً مهماً لدارسي الجيولوجيا لتشكلها فهي موئلاً لعدد من الحيوانات المتوجب حمايتها من الثعلب الأحمر والجرذ الفارسي الذي لمحنا عدد منها في ليلنا، إضافةً إلى أنها موقعاً استراتيجياً للرصد الفلكي بعيداً عن أنوار المدينة وذو خلوة مجردة تماماً من ضوضاء المدينة، بجانب ذلك تجد ما نبت بين الشقوق الرطبة وبقاع الفيضة من نباتات كثر منها يستخدم بالطب الشعبي كالأثل الموصى به في علاج الكلى وقد أثبت العلم أنه يساعد على التخلص من الأكسدة بالخلايا الليفية، والغرقد ذو الطبيعة الشوكية المتحمل لأقصى درجات الجفاف المشهود له بالمكان، والعفينة المعروفة بأم عليب ومسميات أخرى وعُشبة العاقول المستخدمة كمنشط جنسي للرجال، وقد سجلت هناك الجمعية الملكية لحماية الطبيعة المشرفة على إدارة المحمية عن إعلانها عام 2018 بوجود 38 نوع نبات من ضمنها نخيل صحراوي نادر، وما زالت تجرى الدراسات والمسح من جهات علمية محلية وبعث دولية.
وبعد مسير التقينا برفيقنا عند النقطة المحددة بجانب الجبل المثقوب، ليبدأ كلاً منا ببناء خيمته الذاتية واشعال النار، ثم قمنا بنصب دلال القهوة العربية مستخدمين الحطب دون انتهاك نباتات المحمية حيث كان من ضمن ما جف وتساقط منها وهو العرف السائد والواجب تطبيقه حفاظاً على دورة حياة الطبيعة والحياة الفطرية والبرية، ثم إعداد العشاء والذي بالتأكيد كان الطبق الشعبي المعروف "المنسف" والذي قام بطهيه أحد افراد المجموعة كما هو متواجد بعاداتنا حيث يتكفل الرجال بطهي طعام الفرح وهو ما تعلمناه أيضاً كابراً عن كابر.
وبعد ليلة غائمة اشتد ريحها، دخلنا خيامنا ولأكياس نومنا المفروشة فوق عازل أرضي يقيناً ببرودة الأرض التي تنخفض حرارتها سريعاً مع زوال الشمس، ومؤشر الرطوبة باستخدامنا تطبيق الطقس الالكتروني والذي أفاد بأن الندى سيحدث له تكثف دون انجماد وسوف يكون بدرجات عالية؛ لهذا توجب علينا وضع طبقة نايلون إضافية فوق الخيام لخلق مساحة، حتى تشكل فاصلاً حرارياً وبالذات لفترة اشتداد البرودة بعد انتصاف الليل وملامسة الصفر المئوي في حين أننا في برد كانون الثاني القارص وذروة ما يعرف بالمربعانية الشتوية.
لم نترك روعة شروق شمس البادية تذهب ونحن نائمين في خيامنا حيث كانت أشعتها تنسل بينما تلبد الغيوم المسرعة والآتية من الغرب، فكان انعكاسها كالذهب على قاع الفيضة الرطب، وحوار مع حمرة وبياض الغراميل وتلال الحيد التي أصبحت بتكويناتها النحتية مقصداً لعشاق التصوير والفن الفوتوغرافي، حيث كلاً منهم يبحث فيها عن ضالته بسريالية، فهناك من يرى بعفوية مشهد وجه لأبو الهول، وآخراً سفينة وعروس بكامل زينتها، أو مخلوقات فضائية وتضاريس لسطح المريخ والقمر تصلح لاستقطاب كبار شركات الإنتاج السينمائي العالمية لإنتاج الأفلام بها.
فبينما كنا نشعل الموقد بجمر لن ينطفئ طوال الليل، مر صديقنا بسيارته، والذي كانت علاقته طيبة بأهالي المدينة هناك، وأحضر شيءٌ من حليب الأبل الطازج ذو الفوائد الجمة أهمها تعزيز المناعة، وخبز شراك وتمر من قوت البادية حيث كان ذلك إفطارنا، فجمال الخلوة ببساطتها وقيمة التخيم بمن ترافق في أحضان الطبيعة.
وبعد فض مخيمنا وحزم الأمتعة، وتنظيف المكان، وطمر بقايا الموقد، عدنا لمسارنا ولكن من فوق الحيد المفروش بشظايا صوانية، والمختلف كلياً عن قاع الفيضة متخللين شعابه البيضاء الهشة طباشيرية التكوين، والذي لابد من أخذ الحذر حيث استخدمنا عصي الارتكاز خشية الانزلاق للُزُوجته، وعبور كثبان وردية ذرتها الرياح، أما منظر المكان من أعلى فهو يختلف تماماً عما كنا نشاهده والذي كان مقابلنا سبخة ووادي الهزيم وارتيمة، حيث عرفنا اسمائها ممن صادفنا بترحاب من الأهالي ومن جنودنا البواسل قوات البادية الملكية، لنصل بعدها لنقطة البداية مع الظهيرة بعد إتمام مسير 32 كم بسلام.