الحب والكراهية بين هالة العقل وتلقائية القلب
د. أجمل طويقات
18-01-2022 04:44 PM
شتّانَ ما بين غمضة قلب وانطلاقة روح، وشتّان بين من يدعوك إلى التحوّل من منطقة مُضيئة إلى منطقة مُظلمة، خَفَت ضوؤها، وانقطع غيثها، وجف نبعها.
ولعل الإنسان يصادف في طريق حياته القصيرة عقبات تنكأ فيه جراحات، قد تكون وَكَتَات في بعض القلوب، ودواء أخرى.
ولعلّ هذا ما أثار فضولي في التساؤل والبحث عن إجابة ناجعة له، وعن هذهِ المفارقة الآتية: فما الذي يجعل الهوّة تتسع بين الناس؟ أهو القلب؟ فإن كانت الإجابة نعم، فهي إجابة تقود إلى تساؤل آخر: ما الذي جعل قلب يوسف يختلف عن قلب أحدَ عشرَ قلبًا لأخوته؟
ولعلَّ البحث يطلق فينا هالة العقل التي تنتشر لا إراديّا، فتشير بصورة تلقائية إلى القلب. وقد نتسلح بحيل العقل وحباله، وتتوطد علاقتنا مع بنات أفكاره، وقد يقودنا أيضا إلى أماكن أخرى مرتبطة بالمدرك والشعور واللاشعور، ونجد مساحات من النجاح أو ما قد يظن أنه نجاح؛ فقد ظن أخوة يوسف أنهم بقتل يوسف والخلاص منه سلكوا طريق الخير والصلاح، فالغاية من تحقيق عصارة أفكارهم هي كسب ودٍّ أبيهم: {قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ* أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ* قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ* قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَا لَّخَاسِرُونَ* فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ، وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ* وَجَآءُوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ* قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ* وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
إن مَنْ تعافَتْ إرادتُهُ فَنيَتْ ذرائعُ تقصيرِهِ، ومَنْ تَشرَّفَ قلبُهُ بِنبلِ الغايةِ، تطهّرَتْ يداه منْ قبحِ الوسيلةِ.
قد يجابهُ أيُّ واحد منا في حياته أُناسًا قد يشبهون أخوة يوسف، والتشبيه هنا يهدف إلى المقارنة والمقاربة وليس التمثيل الدقيق، فإذا عدنا إلى أخوة يوسف وجدنا أنهم - كما يظنون - ينشدون الحبَّ، أليس الحبُّ هو غاية إلهية منشودة تمّ ترتيب الكون وفقا لها، وجعل منها قاعدة مُقررة عند أحبِّ الخلق إليه، حبيبنا وشفيعنا محمد- عليه أفضل الصلاة والسلام- حين قال:" لا يُؤْمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولدِهِ، ووالدِهِ، والناسِ أجمعينَ".
أخال نفسي أنظر إليهم، وهم يدعون إلى الفجور وأبشع المعاصي وأكثرها حُرْمةً، وهي جريمة القتل بدعوى الحبّ. وقد يحاول القلب الناشز عن فطرته أنْ يجد فكرة شيطانية، ويلبسها ثوبا ملائكيا. وبطبيعة الحال قد يعترض طريق الإنسان بعض العقبات، وهو أمام هذا الأمر مخيّر بين أمرين: إما أنْ ينجح، وبتجاوزها بطريق بديل سويّ، وإما أن يتخذ حيلا مبطنة.
وعندما يجد الثاني منهما أنّ الطريق سالكة، وينجح بتحقيق ما يريد زورًا وبهتانا تحدث هناك الألفة بين قلبه والطريق غير القويم، ثمَّ يستمرئ هذا الأسلوب، ويستمرّ في سلوكه، ويجازف وإنْ كان على حساب أشياء كثيرة تمسُّ قيمه ومبادئه، ويرتكب أحياناً أخطاء مفزعة، ويحقق صلة دائمة، ثمّ يتحقق له المأمول في الختام بالزواج الكَاثُولِيكي؛ لذا لم يجد أخوة يوسف غضاضة في الحديث عن الحبِّ طالما أنهم سلكوا هذا الطريق المليء بالكره والغل والحسد، يقولون:{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}.
إن قمة الجريمة في ميزان أصحاب هذه القلوب الإيمان بأن الغدر والجريمة هما طريق المحبّة.
وهناك كان يوسف الطفل يكتب الله له قصة نجاحه انطلاقا من البئر، مرورا بالسجن شابًّا في بضع سنين.
ولا شك أنَّ تلك الأيام كانت تمرّ على يوسف ببطء شديد، وحزن يجري في قلبه مثل شلال الماء، يأخذ معه كلّ ذكرياته وآلامه، والشوق إلى دفءِ والديه وحبه لهما. نعم كان يعترض الحزن طريقه، ويكاد لا يتوقف عنه، إلا أنَّ قلبه يشعر بالرضا والسكينة ومعيّة الله، ولم تزد جراحه قلبه إلا طُهرًا.
لم يكن البئر- مع ظلمته والمشاعر التي رافقت يوسف في ذاكرته- أكثر من طوق نجاة من ظلم أخوته له، ولم يكن بيعه عبدًا بثمن بخس أكثر من كونه قافلة العزيز، ولم يعد رفقاء السجن أبعد من شراع سفينة أو طوق نجاة. كلّ تلك الأحداث كان ظاهرها شرًّا محتومًا، في حين كان باطنها خيرًا مُقدّرًا. كان الله يدبّر ذلك بحكمته وعظيم كرمه.
ولعلّ لحظة تقليب للأمور، وتدبّر لها تضعنا أمام فريقين، فريق يفلت العقال لقلبه فيُغويه، ويجعل منه مخزنا للكراهيّة والحسد والغلّ. وفريق جعل من نكات قلبه السوداء مرهما له، يطببه ويهبه نورًا، ثم يمضي بلا هوادة، متّكئًا على أريكة العقل.
ويبقي القلب متسقًا مع العقل، تحيطه بساطته، وتضمّه عفويته طالما أخرج منه ما يفسده، وجلّى عنه صداه بمادة الإيمان الحق. وبغير ذلك السبيل لن تنقذ قلبك من خديعة العقل، فهو الكهل المدجج بأفكاره المسبقة، والسابقة على وجود القلب.
وسيبقى القلب متهمًا، طالما استولى العقل على مرافق السلوك البشريّ؛ لأنَّ عفوية القلب لا تساعده على مواجهة الخداع، كما أنه يَفضَحُ غياب معقوليّة الواقع، ويزيحُ كلّ الستائر التي تحول دون رؤية الأشياء بشفافيّة واضحة وبرمزيّة موغِلة.
إنَّ الفهم العميق للقلب يجعل أمر قراءته ممتعًا بلغته وأسلوبه، ويعيد إلى الإنسان متعة الإدراك والفهم والتذوق، كما يجعل من النظر إلى قلب يوسف وأخوته بتتبع طريقهما، وصولا إلى النتائج، يجعلنا أمام عالمين مُتَبَايِنين، يصغي كلّ منهما إلى الآخر بأذن مختلفة، ويتحدثان بلسانين مُغايرين في حقيقة ما يدعيان.
ولسان المرء - على الأغلب - بريد قلبه، وأحسن شيمه، وهو ينطق بعزة النفس أو ذلها، وقد يوصف بالحلم أو الجهل، يؤكّد ذلك العمل أو يكذّبه، فلا يستغرب هذا البيت الذي نطق به عنترة حين كان قلبه عفيفًا قبل عقله، متخليًّا عن ثقل طيفه الاجتماعيّ الذي ينظر إلى عبد، يقول:
إني امرؤٌ سَمْحُ الخليقة ِماجدٌ لا أتبعُ النفس اللَّجوجَ هواها
وكان من الطبيعي أنْ يعفوَ سيدنُا يوسفُ- عليه السلام- ويقول: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ ٱللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّٰاحِمِينَ}. قال هذا الكلام؛ لأنّه قد طهر قلبه مسبقًا، وأعدّه لهذا المقام، فقد ألف نقاء السريرة منذ نعومة أظفاره بكلّ اقتدار: {وقدْ أحسنَ بي إذْ أخرجني من السجنِ}، ذكر السجن، ولم يذكر البئر؛ حتى لا يُخجل أخوته. إنّ القدوات يترفعون عن الانتقام وتصفية الحسابات. فكم منا يستطيع أنْ ينطق بها حين يكون الأمر جللا كغيابة الجُبّ أو ظُلامات السجن، بل حين يكون الأمر أبسط من ذلك بكثير؟.