هوية الندرة، وندرة الهوية .. ما مصير الذبيح الأخير؟!
حسين الصرايرة
18-01-2022 11:35 AM
قد تكون "النّدرة" هي مفتاح الإجابة على كل الأسئلة الصعبة التي تواجهها الهوية الوطنية، بأصالتها وحداثتها ومآلاتها، وتطهّر الكثيرين منها وبها، على حد سواء.
لطالما كان هناك معادلة مرسومة بين ما يرغب كل منّا وبين هويته الشخصية، تلك التي تحقق ذاته، وهذا ما حاول "ماسلو" أن يشرحه في هرم الاحتياجات ليذهب آخرون ليضعوا لتلك القاعدة سلسلة من الاستثنئات، في أن يكون إثبات الذات مثلاً على حساب الجوع، والأمر مختلف بين مجتمع وآخر، وفرد وآخر.
"كولبرج" اعتبر مثلاً أن المجتمع وأفراده يتصادمون بين بعضهم لمدد طويلة حتى يكتشفوا سوية الخطأ والصواب، أو الأصح أن نقول أن يكتشفوا متى يكون هناك فعل ما نافر من كل المباحات ويضر بإنسانيتهم فيعتبر خطيئة أو خطأ، حيث يبدأ بذلك مع الوقت، تشكل تدريجي للوحة الإنسان، فيما يرغب ويحب ويكرر من أفعال، التي تصبح عادة، فتقليداً يورث أو ينقل بين جيل وآخر، وتبدأ الحدود بالظهور بين ما هو سيء، ومرفوض، وغير لائق بمعايير تتطور مع الوقت أيضاً، تغلفها الفلسفة ويتبناها الدين -أي دين- ويعمل على تنظيمها القانون، وبين ما نغرب بأن نخفي، ونرغب بأن نظهر، تخرج لوحتنا للناس بنتؤات هنا، وتدرّج هناك، ملاسة في أماكن وخشونة في أخرى.
بالعودة للنّدرة، أي الأشياء قليلة التوافر، بدأت الهويات بالتشكل، وليس ببعيد، كانت النّدرة الأردنية سبباً في تشكل الهوية الأردنية على مدى عصور طويلة، فتجد ندرة في الأماكن الآمنة على أبواب الصحراء، فصارت مرتفعات كالكرك والشوبك أهم قلاع في الشرق الأوسط بشهادة سكان أوروبا الذين احتلوا المنطقة لقرون طويلة، ولما كانت الندرة في مساحات البناء بين التشكلات الجبلية الجيولوجية صنع الأنباط البترا وما حولها من هالات قداسة عميقة في الثيولوجيا القديمة، كما كان الحال مع الماء، فمن ندرة الماء جر أهالي وادي موسى الماء في الصخر، وذات المشهد تجده في البحر الميت الذي حكمه الفراعنة والسومريون مع بدء التاريخ، لندرة ملحة وطنية.
الندرة بنت بيئتنا الأردنية، الصعوبة في الماء والكلأ، والاصطفاف على ضفاف الصحراء، والهجرات البشرية، للمظلومين والراغبين بالاستقرار، والناجين من هجمات قطاع الطرق، حتى أن "ميشع" ملك مؤاب كتب مسلته في شأن حماية الكرك من سلب ونهب اللصوص العبرانيين، شأنه شأن ما فعله الحارث ملك الأنباط وغيرهم في أدوم وعمون.
المهم، أن هناك "هوية ندرة" -بنيت عليها- وهناك "ندرة هوية" في المكان الذي ضمّ من آمن بالأردن موطناً حامياً، ومنبتاً لأحلام الوحدوية والإخاء والمساواة والحرية والكرامة، وهي نواة ما تبناها أهل شرق نهر الأردن، بثورات محلية وثقت وأكدت رمزية المكان وذاكرته.
ندرة الهوية، مارسها كل من لم يعتبر الأردن بلداً، أو استكثر عليه ذلك، وحالة النكران لهذا البلد جاءت بعدما تربربت أكتاف الكثيرين من خيره، وصار مع سلاسل البيع والشراء والنهب والسخرة، غير قادر على السرقة أكثر، على سرقة البلد الذي آمنه من جوع وخوف أكثر، صار الأمر غير مجدٍ بالنسبة لهم، فانقضوا على الذبيح الأخير، على الأردن، ويقطعونه ويشوونه، ويأكلونه، ويشتمونه، ويسبونه، وهم من تحالفوا مع الشيطان ليمرض ويضعف.
بعدما أكلوا من خيره، صاروا يهدمون مؤسسات الدولة وينتزعون السيادة منها، ويرجمون الاقتصاد الذي حفظ لهم ماء وجوههم في ألف أزمة ضربت الشرق الأوسط.
حاقدون على كل هذا العطاء، غاضبين من ذلك الوفاء، الذي تدوس به الأرض فتعطيك من خيرها، وتربت على كتفك لعلك، تتوب وتعرف أن لا موطن لك إلا هي.
ندّروا الهوية، وصار المرتزقة ينعمون علينا بوصفهم لجرعات دواء لأزماتنا التي صنعوها هم، وصار العيب فينا وفي الأردن، في عياله، نحن، أنا وأنت، ولا يهمني منبتك وأصلك، ما يهمني أن تؤمن أن الأردن بلد، يستحق العيش، بأهله وناسه، ولا تفكر في غيره وطناً، لأن العروبة طعنته، والمقاومة طعنته، وقومية طعنته، والبترولية والرأسمالية والشيوعية والاشتراكية، كلها، كلها طعنته، لكنه ظل واقفاً، وسيبقى رغماً عن أكوام المال التي إذا ما شعرت بالخوف هددت بالهرب في الطائرات.
أنا أردني، وبيتي منذ كان مجدولاً من شعر الماعز قبل أن أبني ألف قلعة على أرضي، مفتوح لمظلومين، فهذا واجبي، أمام ضميري، وأسميه ضميراً أردنياً إضافة إلى أنه إنساني، لأن التاريخ أثبت أنني أترجم معاني الإنسانية أفضل من الكثيرين ممن حولي، بيتي مفتوح للضيف، لكنه مقفل بوجه المحتل، الذي أخذ أرضي وحقي وحياتي، ولن أقبل بنقل الظلم من العدو إلى الأخ ليكون مبرراً، ولا أحمل ذنب أي خيانة أو تواطئ قام بها غيري وانتفع، فأنا الأردني الذي أعطيت معنى للندرة، وكفاف اليوم بخبز شعير، الذي ما إن أكله الناكرون وشبعوا ذموه.
أنا أعطيت للندرة هوية، وهوية ندرتي أن الفئة التي سرقت البلد ستفنى على يدي، وسأستعيد هذا البلد منها، ولأكن من بينهم نادراً، قليلاً، سأغلبهم، فمن بيننا من يبرر الخنوع بالندرة، والظلم بالندرة، والضعف بالندرة، لكني أنا الأردن، أصنع من الندرة قوة، وسيعرف الكلّ أن الندرة تلك، التي سعوا لها لتضعفنا، زادتنا قوة، وصبراً وثباتاً.
أنا الأردن، ومن الندرة أولد وأعيش.. وسأحيي الذبيح وهويته رغماً عنكم.