ذكريات لن تُعاد: زَمان عمّان، وزمان الإشتباك، وزمان اللويبدة!
باسم سكجها
15-01-2022 09:33 PM
كانت عَمّان صغيرة..
وكُنّا نرى ثَلاثة أرباعها، من أي منطقة نَقف فيها، بسبب تضاريسها العجيبة، الجميلة، وتربّعها فوق سبع تلال كنا نسمّيها جبالاً، وبنيانها المُعتّق، الذي لا يَعترف إلا بالصخر وبالحَجَر.
وكبرت عمّان، كَبرت كثيراً، إلى درجة أنّ البنايات صارت تُغلق على البلكونات، والأسطح، مَجال الرؤية، وصارت الشوارع تحتلّ مَكان الأرصفة، وباتت التلال البعيدة، حيث الضِباع، والمزارع، والأراضي الخصبة المزروعة بالفَقّوس، والبامية، والقَمح، أمكنة آهلة بالسكان القدامى، الذين رحلوا من شَرق عمان إلى غربها، وللسكان الجدد الآتين من هنا، وهُنا، وهناك، وهناك.
ليس من مَكان يصير فيه الغرب شرقاً، إلاّ في عمّان، فاللويبدة، كانت آخر غرب المدينة الوادعة الصغيرة، فصارت شرقها. أحبّ أن يكون جبلي، اللويبدة، في الشرق، فالشروق لا يليق إلاّ به.
ولكنّ عمّان، في ذلك العام، كانت مفتوحة على الفوضى، على حرب لا يُعرف فيها مَن مع مَن، ومَن ضدّ مَن. كان هناك ثوّار حقيقيون، إلتحقوا بالمقاومة لتحرير فلسطين، وكان هناك مَن لبس زيّهم زيفاً، ولطّخ سمعة الفِداء والفدائيين.
وكان هناك النظام، الذي لا يرضى سوى الهوية الجامعة، المانعة، ويدافع عن نفسه ووجوده، وليس سرّاً أنّ الطرفين ضمّا كلّ مكونات المجتمع، ففي التنظيمات المسلّحة شرق أردنيين، وعرب وأجانب، مع أنّ الغالبية للأصول الفلسطينية، وفي النظام والجيش كانت هناك كوادر وقيادات من أصول فلسطينية، وبالطبع فهناك الغالبية للشرق أردنيين، وليس سرّاً أيضاً أنّ قرارات أساسية في معارك ضدّ معسكرات اتخذّت من فلسطينيين…
وكذلك كان على الجانب الآخر، فالذي حمل شعار :”لا سلطة سوى للمقاومة” كان من الشرق، وفي ليلة عمّمها على حيطان عمّان، وفي اجتماع في أحراش جرش، كان هناك قرار الانقضاض على السلطة، ولكنّ المعلومات وصلت فوراً للنظام، ولا أتحدّث هنا من جهل، أو من مجرد سماع إشاعة، بل من معلومات مؤكدة، نقلها لي الأستاذ بلال الحسن، وكان حاضراً للاجتماع في غابات دبين!
أيّامها، كانت تَتناسل التنظيمات بطريقة أرنبية عجيبة، فانفلتت الأمور من عقالها، ولم يَعد للعقل من صاحب. أذكر أنّ أصدقاء لنا، صِبية يحملون الكلاشينكوفات، كانوا يقفون وراء سور المدرسة، فيُطلقون النار في الهواء بترتيب مُسبق معنا، لُنسارع إلى حَمل كتبنا ودفاترنا بافتعال أنّ هناك خطراً من وجودنا في الصفّ، فنخرج، ونذهب لنحضر فيلماً سينمائياً، أو لنلعب كرة القدم.
في يوم مُقبل، بَعدها بسنة، أو أكثر قليلاً، كُنّا، شَباب اللويبدة، نجلس على الحجارة عند المَطلّ على جبل عمّان مُقابلنا، نُشاهد عمارة مُتداعية من الرصاصات والقذائف، تَنهار أمامنا، بعد أن أعلن سلاح الهندسة أنّها منطقة مُحرّمة، فُنَسفها بمهارة في مكانها. هي، الآن، موقف للسيّارات.
وفي يوم، قبله بأقلّ من ثلاث سنوات كانت مدرستنا، ضرار بن الأزور، تستقبل النازحين، من فلسطين، وكُنتُ أعرف منهم أنسباء وأزورهم، ولكنّنا أبناء المدرسة، لاحقاً، تابعنا دراستنا بعد شهرين، وكأنّ شيئاً لم يكن.
بعدها بثلاث سنوات، في أيلول الصَعب، القاسي على الذاكرة، كان عليّ أنّ أشتمّ، بأنفي المُلفّح بمنديل، رائحة الموت المجّاني، حين قَصَف شاب بالآر بي جي نصف مجنزرة تتتقدّم قافلة عسكرية تَقصد السيطرة على الجبل، وتحاول المرور صُعوداً على حدود التراسنطة، فدمّر مقدّمتها، لتتراجع إلى الوراء، فتحطّم سُور مدرستي، وتستقرّ في باحة كانت مكان لقاء الطلاب في فُسحة الأوقات بين درسين.
أكذب عليكم، إذا قُلت إنّ رائحة موت الجنديين، اللذين بَقيا متروكين هناك أسبوعاً، ما زالت تزكم أنفي، فهي تستحوذه، وتقتله.
وقبلها، بأيام، والمعارك تَشتعل، في رصاص مَجّاني سَخيف، ونحن في جفاف نتلهّف لقطرة ماء في أواخر شهر أيلولي يُفترض أن يكون طرفه مبلولاً، يَصل خَزان ماء على شاحنة من طلعة العبدلي، ويتسابق الناس لأخذ المستطاع من ماء، فيتعارك عديّ الخطيب بجسده القويّ مع الناس، حاملاً تنكته، ويصل إلى الماء، إلى الصنبورة، ويبدأ فخوراً بتفوّقه بملء التنكة، فتباغِت رَقبته رصاصة، لينفرّ الدم، ويختلط مع الماء في سيولة ظلّت آثارها على الشارع، إلى أن محتها آثار عَجلات السيارات.
راح عُدي، وجاء قَتل مجّانيّ آخر، وبرصاصة طائشة أيضاً: متري حنّا منّه، وسأظلّ أتذكر إسمه لأنّ له وقعاً خاصاً. متري دُفن في حفريات كانت البلدية بدأت بها للمجاري في الشارع الفرعي نفسه، الذي مات به.
في عزّ إشتباكات أيلول، لم نكن نعرف عمّا يجري في أنحاء عمّان، سوى أصوات الرصاص والقذائف، وما ظللنا نسمعه في الإذاعات الخارجية من أخبار، وكلّها تؤكد أنّ هناك مناطق في جبل الحسين دُمّرت تماماً، صار أبي يغلي، فكثير من أقاربنا يَسكنون هناك، وخصوصاً شقيقه محمود. ولستُ أعرف كيف قرّرت الذهاب إلى بيت عمّي، ولكنّني، وأنا أتذكّر، الآن، أعتبرها خطوة جنونية إنتحارية بإمتياز!
كانت هناك سيارات ترفع علم الصليب الأحمر، وفوجئت بأحد معارفي، عصام الجقة، في واحدة منها، فرجوته أن يقلّني إلى هناك. إستنكر، لكنّه، مع توسّلي، وافق على إيصالي إلى منتصف الطريق تقريباً. بدأت، بعدها، بالصعود على درج طويل يبدأ من الوادي، حيث شارع السلط، بالقرب من ساحة العبدلي، حيث موقف الحافلات، فيخترق السفح ليصل إلى القمّة.
الأمور هادئة، تماماً، ومع وصولي إلى شارع مدرسة الفرير، كانت هناك قوات من الجيش، ولم يسألني أحد عن سبب وجودي، فتابعت السير إلى دوار مكسيم/ فراس، لأفاجأ بثلاث دبابات معطوبة على الدوار نفسه، بعد أن إخترقت الرصيف، تملّكني الخوف، وفي دقائق قليلة كنتُ أدخل لاهثاً إلى زقاق يؤدي إلى البيت، وهناك، وعلى بلكونة في الطابق الثاني، كان عمّي وزوجته وإبناه وإبنته يقفون، وكأنّهم يعلنون لي بأنّهم بخير.
ولكنّ فرحتهم المعلنة بالإطمئنان علينا أيضاً، كانت تختلط بمفاجأة تمكنّي من الوصول إليهم، وخوفهم عليّ من طريق عودتي، ولكنّ الله سلّم.
حين أبلغت أبي بما جرى معي، كاد أن يقتلني.
وَقَد سلّم الله، أيضاً، منزلنا من الإنفجار. كان الحاج فايز جابر من قيادات الجبهة الشعبية يَستأجر مَساحة تسوية تحت بيتنا، ولم يكن يستعمله إلاّ نادراً باعتباره ظلّ دائماً على سَفَر. وفي يوم تعرّضت منطقتنا لإطلاق نار كثيف صادر من جبل الحسين، واخترقت رصاصة جدار باب الدرج، فأحدثت ثقباً واضحاً خرج منه دخان. نزل غازي صديقي الشكركسي وجارنا، ونسيبنا لاحقاً، ففتح الباب ليكتشف أنّ هناك كمية من المتفجرات، فسارعنا إلى إخراجها، ورميناها فوراً في الحفرة الإمتصاصية القريبة.
الحاج فايز جابر لم يَعد إلى عمّان، بعدها، ولكنّه إستشهد في عملية مطار عينتيبي، برصاص الفرقة الإسرائىلية التي سافرت إلى أوغندا لتحرير رهائن.
قبل إستشهاده بسنوات قليلة، صادف أن كُنت في القاهرة على مائدة بيته، فسألته عن المتفجرات، بعد أن رويت له ما حدث معنا، ضحك وقال: كُنّا سنهربها إلى فلسطين المحتلة.
هُناك فيلم هوليوودي يتحدّث عن قصّة فايز جابر، وعملية عينتيبي، وطريقة رحيله.
عمّان، كانت مفتوحة على الفوضى، والقتل المجاني، ذلك الذي رأيناه يُكرّس في بلاد أخرى، وذلك ما لا يعرفه أبناؤنا، وذلك ما لا نريده أن يعود، ولن يعود، وتظلّ روح اللويبدة التاريخية العتيقة، هي التي ينبغي أن تطغى في روحها على عمّان، فالجزيرة البريئة تطغى، أحياناً، على أكبر محيط.
في السبعين شهدت عمّان أحداثاً مؤسفة، قاسية، كاسرة، ولكنّ اللويبدة لم يشهدها، إلاّ قليلاً، إلاّ ما حدّثتكم عنه، فغيره عرف أقسى منها، بكثير، ليظلّ جبلي هو المكان الذي نعرفه في هدوئه، وعقلانيته، وتسامحه، وتفضيله الحوار والتنوّع والتعدد، على حساب التناقض.
هو العتيق كسحر عمّان، كنبيذ المسيح، أعيش به، وأغادره، وأعود إليه، لأكتشف أن الوجوه تغيّرت، ولكنّ الروح هي هي مثله، كما التقيته اول مرة قبل ولادتي، عمّانية، جميلة.
في اللويبدة تبقى الأشياء كما هي، وتتغيّر اشكال الناس، ولا تتبدّل نفوس الهاربين من ضجيج عمّان، وصخب المدينة الملعون، المشحون باللا شيئ.
وفي اللويبدة، كان وسيكون المعتّق من الأشياء، وفيه ومعه تنعتق أرواح مأسورة بضوضاء الشمس، مع قمر حبيبتي عمّان، في وسط قلبي، قلب قلبي.
في اللويبدة تعلّمنا الدرس، وأخذنا العِبر، وتلك ذكريات عَبَرت، وتعلّمنا منها، نستعيدها، ولن نعيدها، ولكنّ غيرنا لم يتعلّم منّا، وكيف أنّنا عابرون جميعاً على أخطائنا وخطايانا، فيا اردننا الحبيب، لك العشق، ولك البقاء، ولك بقايا العُمر، ولك أن تظلّ هوية جامعة مانعة، بكلّ ما فيك من تنوّع وتعدّد، وجمال، وهو كلام للشباب، فبلدكم الأردن أغلى ما تملكون، وللحديث بقية!
مقطع من كتاب…