يعيش السودان الشقيق حالة استعصاء سياسي هذه الأيام فجماهير شعبية كبيرة تجوب الشوارع وتُقدّم الشهداء كل يوم مطالبةً بالحكم المدني والجيش السوداني قام بانقلاب على "الوثيقة الدستورية" المتفق عليها مع "المكون المدني" ويرفض تسليم السلطة الكاملة إلى المدنيين!.
إنّ هذا الواقع الآنف الذكر يطرح إشكالية علاقة الجيوش مع دولها في العالم النامي وقد تتجلى هذه الإشكالية في السؤال الآتي:
هل الدولة هي التي تملك الجيش وتفرغه لمهمته الأساسية وهي حماية حدود الدولة من أعدائها الخارجيين، أم أنّ الجيش هو الذي يملك الدولة فيسيطر على قرارها السياسي، ويشغّل اقتصادها لمنفعته ويبدو وكأنه هو الذي يملك الدولة لا هي (أي الدولة) التي تملكه!
إنّ الوضعية الصحيحة محسومة في الدول الديموقراطية، فالجيوش مُكرسة للدفاع عن البلاد ولا تستطيع أن تتدخل في السياسة بحكم الدساتير المرعِية بدقة، أمّا في كثير من البلدان النامية لا تلبث الجيوش في ثكناتها كثيراً بل تثب إلى الحكم بين حين وآخر كما حصل تاريخياً في تركيا، وباكستان، وكما حصل في مانيمار وبعض الدول الأفريقية حديثاً، وفي حالة السودان على سبيل المثال لا الحصر شغلت فترة حُكم العسكر مُعظم التاريخ السوداني بعد الاستقلال عام 1956 حيث حكمه الجنرال إبراهيم عبود، ثم الجنرال جعفر النميري، ثم الجنرال عمر البشير مع فترات حكم مدني متقطعة وليست طويلة بين هذه العهود!.
هل كانت هناك استثناءات أي انقلابات تحولت إلى ثورات وحققت آمال شعوبها بل وأُمتها؟ بالطبع كانت هناك بعض الاستثناءات النادرة، ولكن الاستثناء يُؤخذ به ولا يقاس عليه كما يُقال! ولكن.. لماذا يحدث هذا في الدول النامية؟ إنً لذلك عدة أسباب قد يكون من أهمها:
أولاً: عدم وجود إرث ديمقراطي في هذه البلدان فهي في معظمها (إن لم يكن كلها) كانت مستعمرة من قبل القوى الغربية الكبرى كبريطانيا وفرنسا والتي لم تسمح لها بالنمو الاجتماعي والاقتصادي الطبيعي بحيث تفرز أحزاباً سياسية ومنظمات مدنية تستطيع قيادة مجتمعاتها بأسلوب ديموقراطي، بل على العكس وأدت كل محاولة من هذا القبيل لكي لا تتضرر مصالحها.
ثانياً: إغراء السلطة التي لم تستطع الجيوش أن تقاومه في ضوء عدم وجود قوى وأحزاب وتيارات مدنية مسيسة وفاعلة. إنّ من الواضح أنّ الاستيلاء على السلطة يدير الرؤوس ويوفر كثيراً من الامتيازات والمنافع وإذا لم يكن هناك من يقف في الطريق فلما لا؟.
ثالثاً: عدم معارضة القوى الكبرى (وهي للمفارقة الدول الديموقراطية الأكثر تقدماً!) لمثل هذا الاستحواذ على السلطة ما دام أنه لا يعيق تحقيقها لأهدافها في النهب والاستغلال والسيطرة بل في الواقع قد يكون مدخلاً لذلك، وكُلنا يعرف أنّ القوى الاستعمارية هي التي سهلت انقلاب الضابط "موبوتو" على البطل الأفريقي "نكروما" في الكونغو في ستينيات القرن الماضي، وأنّ الولايات المتحدة هي التي مكنت الجنرال " بينوشيه " من الانقلاب على الرئيس المنتخب " سلفادور أليندي" في تشيلي.
رابعاً: ضحالة وعي الشعوب في العالم النامي التي تنخدع أحياناً بالشعارات التي تُرفع والتي تدعي "الإنقاذ"، " أو القضاء على الفساد" " أو استعادة الأرض المغتصبة"، " أو المحافظة على الأمن" وغير ذلك من شعارات تنساق وراءها الشعوب لفترة ولكنها ما تلبث أن تكتشف أنها ليست أكثر من أوهام وسراب ولكن بعد فوات الأوان!.
إنّ الجيوش يجب أن تكون موضع تقدير كل الشعوب بِلا شكّ فهي منذورة للتضحية بأرواح منتسبيها في سبيل الأوطان وليس هناك ما يمكن أن يُقّدم أكثر من ذلك، ولكن الذي لا شك فيه أيضاً أن ميدانها ليس في دوائر صنع السياسية ولكن على الحدود حيث ترصد، وتراقب، وتدافع، وتضحي إن لزم الأمر، وعندها تكون وفية لرسالتها التي وُجِدت من أجلها، وتكون مستحقه لكل تقدير وإجلال.