حزمة ملاحظات في إصلاح الدولة الأردنية
مالك العثامنة
11-01-2022 11:06 AM
في صالونات عمان السياسية هناك دوما محور عام عموما يتحدث به الجميع: مخرجات لجنة الإصلاح والتعديلات الدستورية ومشاريع القوانين التي يقرها البرلمان.
ما يقوله النواب في خطاباتهم الطويلة والاستعراضية المملة لا وزن حقيقيا له، الكل يعلم أن المجلس بنوابه وكل مهاتراتهم البلاغية المتشنجة ليس أكثر من عواصف في فنجان مقلوب، وأنهم في المحصلة سيقرون كل ما سيردهم من حكومة يتحدث الجميع أيضا أنها لا تبذل الحد الأدنى من الجهد للدفاع عن مشاريعها أمام البرلمان! لا أحد ينتقد غياب الحكومة في المعارك البرلمانية، لكن النقد الواضح يكمن في غياب الحكومة عن الناس، عن الحضور الإعلامي "اللازم والضروري" لتوضيح الملتبسات على الأقل في أهم تعديلات تشريعية تشمل فيما تشمل الدستور، وتتضمن تغييرا جوهريا في قوانين تنظم الحياة السياسية في دولة تدخل مئويتها الثانية بارتباك رغم أن رئيس الوزراء في مؤتمر صحفي "نادر" تحدث فيه مؤخرا عن دخول مئوي ثابت ومستقر وراسخ ( طبعا ليس متوقعا أن يقول رئيس الحكومة غير ذلك).
في الصالونات السياسية هنالك حوارات ثرية، لا معنى لها أمام برلمان أقر فعليا معظم المخرجات كقوانين، ولا يزال مستمرا في عمله.
في الشارع، واقع يائس ومختلف، مشغول بلقمة عيش صعبة لا يمكن ملاحقتها بحزب سياسي، وفي الشارع غضب متشعب وكامن لا يمكن تفجيره إلا إذا توحدت فتائله المختلفة والمتشتتة بفتيل واحد، والمشترك الوحيد بينها جميعا هو الفقر.
ما يجمع الشارع "الغاضب" والصالونات "العاتبة" أن سقف الحديث فيها مرتفع جدا، والشعور بالخطر من حالة "التسكين" لا يمكن إخفاؤه.
غالبية النقاشات في الصالونات تتمحور حول "التحولات الداخلية المتسارعة" لكن الحوارات تغرق في التفاصيل حد الابتعاد عن المشهد الأردني بوقائعه الداخلية اليومية، وواقعه الإقليمي والدولي المتحول أيضا بتسارع لا يرحم.
--
غالبية الحوارات تتحدث عن مشروع دولة بحياة سياسية حزبية وحكومات برلمانية سياسية.
طيب.. فلنفكك العبارات ونعيد تركيبها على الوقائع والواقع.
الدولة التي نتحدث عنها فيها وعليها ما يلي:
- الدولة فعليا لم تعد ريعية، عصر الامتيازات "الرسمية" انتهى، والدولة غير قادرة على "الإعالة" بالمفهوم التقليدي الذي اعتاده الأردنيون، وهذا يعني ببساطة أن القطاع الخاص يجب أن يكون مستعدا للنهوض وتعبئة فراغ "الريعية" بمفاهيم إنتاجية صحية ومتعافية.
- القطاع الخاص، ببساطة ووضوح، غير مستعد، هو نفسه رهن تشريعات "إدارية" بنكهة سياسية كانت تضع أكبر منشأة فيه تحت رحمة "الأفندي موظف الميري"! ولا تزال. مع الأخذ بعين الإعتبار ان الأفندي غاضب وعاتب ومستفز ومتسلط أكثر من قبل.
- الدولة، التي لم تعد ريعية ومحكومة بتشريعات تنظم جهازها البيروقراطي الراسخ والعنيد، تم اختراق بيروقراطيتها "التي كانت سر نجاحها أيام كانت ريعية" بتفريعات مؤسسية وهيئات مستقلة تتشابك أدوارها مع الوزارات والمؤسسات القديمة المعنية، والتشابكات وصلت حدا من الإرباك بحيث أنه أصبح من العادي أن تتقاطع أدوار وزارة يرأسها وزير "مستحدث" مع مؤسسة مستقلة حديثة يرأس مجلسها ذات الوزير، وكل ذلك يحدث باسم القوانين.
- الدولة، التي لم تعد ريعية ومحكومة بتشريعات ريعية بيروقراطية ومخترقة بتفريعات الهيئات المستقلة ذات نكهة القطاع الخاص الحديث، أيضا يتم إدارتها بنفوذ خفي وشبحي من مراكز قوى تجاوزت الجماعة الأمنية، إلى نخب تتقاطع مصالحها حتى تصل إلى التناقض فتتصارع على ساحة الدولة "المرتبكة". والكل يختفي خلف الملك.
- الدولة، بمعناها الضيق المحصور بالحضور الرسمي لمؤسساتها السيادية والخدمية فقدت كثيرا من مصداقيتها أمام الشارع الذي يتصاعد غضبه يوما بعد يوم.
حسنا، أنت - كصاحب قرار- هنا مطالب بتنظيف كل ذلك، وإعادة تأهيل الدولة من جديد لتكون بكامل عافيتها مهيأة لدخول العصر الجديد من الإصلاحات.
لكن، هذا لا يكفي، فهناك أيضا، مفهوم المواطنة، وهو حجر الأساس لتكون هناك دولة مؤسسات وقانون تحت دستور ينص على أن "جميع الأردنيين أمام القانون سواء". وهذا نص دستوري جميل ونبيل ومحترم بكل كثافته المختصرة، لكنه غير صحيح على أرض الواقع، مما يجعلنا نفكك مفهوم المواطنة أيضا:
- المواطنة في الأردن مرتبطة "قانونا وبالتعليمات" بالرقم الوطني الأردني، جواز السفر ليس إثبات مواطنة أكثر منه وثيقة سفر قد تحمل الرقم الوطني أو تخلو منه.
- المواطنة في الأردن كانت مستقرة منذ بدايات الدولة اكثر منها اليوم، فالمواطنة في الأردن خاضعة "للرقابة والتفتيش" الرسمي والشعبي.
- مفهوم المواطنة في الأردن أصابه الإرتباك لسبب عميق وجوهري يتعلق بالضفة الغربية التي هي جزء لا يتجزأ "دستوريا" من المملكة الأردنية الهاشمية، حتى أن الدستور الحالي المعروف بدستور 1952، والذي تدور حوله التعديلات، قائم أساسا على أن المملكة جغرافيا بضفتين، شرقية وغربية. هذه الوحدة مزقتها فكرة "التمثيل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" منذ عام ١٩٧٤ في قمة الرباط، وانتهت بقرار مزاجي غاضب وغير دستوري أعلنه تلفزيونيا الملك الراحل حسين، ولم يصدره حتى مجلس الوزراء ولم يوقعه الملك.
- هذا الإرباك "السياسي" الذي افتعلته مناكفات منظمة التحرير الفلسطينية، أنهى واقع المواطنة الصحية والثابتة لكثير من مواطني الضفة الغربية، والذين انتهوا "رعايا" في حالة تعويم لسلطة منتهية الصلاحية بالكاد تسيطر على رام الله وضواحيها.
- في الأردن، نصف المواطنين "على الأقل" من أصول فلسطينية، وغالبيتهم يعيشون حالة رعب حال اقتراب استحقاق تجديد جواز سفر أي منهم، في رحلة مرعبة قد تنتهي بسحب المواطنة أو النظر بعين الريبة الرسمية في تلك المواطنة بمجرد تحويلهم إلى مبنى حكومي اسمه" الرقابة والتفتيش".
- تلك المواطنة "المذعورة" انسحبت على باقي تفاصيل حياة "نصف المواطنين" فعليا، وهو ما يمكن تلمسه منذ حقبة "الدولة الريعية" التي كانت تمارس المفاضلة في التعيينات الحساسة بين شرق النهر وغربه.
- طبعا، من الممكن فهم الزاوية الأمنية في الحذر من "الانتماءات الفصائلية" بعد تاريخ من المناكفات بين فصائل منظمة التحرير الفلسطينية والدولة الأردنية منذ أحداث الشغب الداخلي في أيلول ١٩٧٠، والتي تصر الأدبيات البائسة للمنظمة أن ترسخها إعلاميا بأيلول الأسود، فيأتيك الرد البائس أكثر من الطرف الأردني "الشوفيني"بأنه "أيلول الأبيض"، مما يعكس حالة لا واعية من تبني تلك الأدبيات البائسة.
- المواطنة في الأردن، مفهوم تتنازعه أجندات متنازعة، بين منظمات مجتمع مدني مهتمة بالتمويل المستمر والسخي لتمرير برامج ميوعة سياسية لا معنى لها واقعيا، أو يمين أردني - إن جاز التعبير- يتحول إلى شوفينية متعصبة تحاول خلق أيقوناتها التاريخية الرمزية بالغصب عن التاريخ نفسه، أو يسار فصائلي منهك يحاول التعافي عبر نقض مفهوم الدولة الأردنية بنفس انتقامي، أو اختراقات إقليمية من الخارج تحاول زعزعة الأمن الداخلي الأردني لتمرير صفقات إقليمية تضع الأردن بضفتيه على الرف المنسي والمهمل.
كيف يمكن أن تنشيء حالة حزبية سليمة بأحزاب تمثل تيارات تعكس حاجات الناس، والخروج من متاهة حلزونية من المناكفات التاريخية التي لا تزال تضع "حركة فتح" في قوائم انتخابية واضحة المعالم؟ كيف يمكن أن تقنع المخيمات "التي لم تعد مخيمات فعليا" أنها جزء من الحياة السياسية المحلية؟
المواطنة، مفهوم واضح، لكنه معقد وشائك ويحتاج من الدولة أن تحدد موقفها مرة واحدة وإلى الأبد في علاقتها مع الضفة الغربية، ومن مكانها في الإقليم بشجاعة وحسم.
نعم، الدولة الأردنية بحاجة إصلاحات سياسية، ربما إعادة بناء سياسي جديد يتفاهم مع العالم الذي نعيشه، وهذا بلا شك يتطلب التخلي عن المفهوم الريعي لها إلى مفهوم الدولة الحديثة التي تديرها المؤسسات ويحكم العلاقات فيها القانون العصري والحديث، لكن الدولة الأردنية "في حالها الراهن" بحاجة إلى استعادة ذاتها المختطفة من قبل مراكز قوى تنازعتها وأنهكتها واستنزفتها، والدولة بحاجة إلى ترسيخ مفهوم المواطنة فتكون تلك القوانين الحدثة ذات قيمة ومعنى فاعل.
والدولة الأردنية، بحاجة ماسة بكل مكوناتها الأهلية والرسمية أن تعيد تأهيل الوعي الجمعي الذي تعرض للمسخ والتشويه، تأهيله "معرفيا وتربويا" وإنضاجه بمفاهيم التعددية وسلطة القانون وقوة الدستور، الدستور الذي يخضع له الجميع، بما فيه رأس الدولة - الملك، المكلف بصيانته وحمايته.
حينها، يمكن الحديث بسهولة ومرونة وبدون تكلف إنشائي عن حكومات برلمانية وحياة حزبية ودولة مواطنة متساوية قوية بجبهتها الداخلية وقادرة على التموضع باستقرار في إقليم يتم تفكيكه وتركيبه من جديد.
الحرة