الأردن .. بين سكينة العوربة وجنون العولمة
أحمد سلامة
11-01-2022 10:51 AM
لو أن مستشرقا أو مستغربا وقف في أية ساحة للصخب الذي يمارسه الأردنيون صباح مساء لأصيب بالذهول من هول ما يرى ويسمع من ضجيج.
وددت في هذه المداخلة الرواح قليلا إلى ما هو أعمق من الصراخ، ومحاولة تحليله أو فهم أسبابه العميقة البعيدة. وما دفعني إلى هذه المحاولة ابتداء هو (رنة القلق)، التي طغت على أغلب أعضاء نادي رؤساء الوزارات. وهذا القلق ربما أسهم في تأسيس هذه (اللخبطة) في تفسير ما نحن فيه.
وبمنتهى الصدق، فإنني أضغط على النفس بضراوة، كي لا ألج الآن في أمر تصريحات الرؤساء الذين أقلقونا. وذلك لسببين: إذ لا أحب أن أبدو أنني أدافع عن أشخاص استهدفهم نقد زملائهم السابقين، فذلك ليس هو القصد. والثاني: هو أن الذين صرخوا وصرّحوا هم رؤساء أشغلوا ليس الأردن فقط بأفعالهم المختلف عليها حين تولوا مهنة الرئاسة وحسب؛ بل إن الإقليم كله قد ضج من أفعالهم! وهذا يحتاج إلى مقال هادئ وتفصيلي سأنضجه حين أنتهي من مراجعة التجربة من مدريد وصانعها، وحماس وطاردها، والخبز ورافع أسعارها.
لكن اليوم، سأتحدث عن شفرة العولمة التي يستخدمها البعض بصورة جائرة ليقطع بعض شراييننا وونسة العوربة التي ما زلت أرى فيها هدأتنا وونستنا وملاذنا. فكل هذا الدوي الذي يربك فينا سببه الصدام أو المواجهة بين (حملة الشفرة) و ( دعاة الونس العربي).
وبعد.. فهل الأردن قابل أن يكون أمريكي الفلسفة واللغة وأن ينغمس بلغة الحوسبة بالكامل؟ أم يستطيع أن يظل عربيا أردنيا بالكامل؟ أم هل هناك طريق ثالث يتيح المزج بين التوجهين؟!
على أول السطر أبدا القول.. إن الأردن قوته تكمن في أن يظل عربيا ويمتلك الرؤية في التعاطي مع الأمركة أو العولمة برضا ونعومة، وأن يكون لدينا مساحة من التسامح والتوافق على قبول ما يحصن مسيرتنا. وبإزاء ذلك، فإنني أسوق بعض الملاحظات التي تبدو لدي ضرورية للفهم، وضرورية لمحاولة استردادنا لبعض هدوء ورشد في الحوارات الجارية.
أولا:
إن المئة سنة الماضية لم تكن عمر الدولة الأردنية فقط، بل هي عمر (الأمة الأردنية). وإن أهم ما وهبته هذه المدة بالزمن لنا هو أن الأمة الأردنية قد نشأت لأول مرة في تاريخ بلاد الشام على ما هي عليه، مثل (الأموية) و (الأيوبية) و (الفاطمية) و (المملوكية). أي أن الأمة في النشوء تطابقت مع الدولة في الارتقاء. وهذه نقطة قوة تديم الأمد وتطيل العمر.
ثانيا:
إن خميرة هذه الأمة بكل وضوح وحسم كانت الفئة العربية التي قطنت، دون هوية خاصة تبعدها عن أمتها،
الجغرافيا الأردنية. وظل الأردنيون عربا أقحاح منذ توطن لخم وجذام جنوبي البلاد منذ انهيار سد مأرب، ولاذ الأجداد بالأردن كإحدى محطات البدء من جديد.
إن هذه الهوية للأردنيين، الطاعنة في العروبة، قد أسبغت نعمتها على كل القادمين لاحقا (هجرة أو رغبة) في الانضمام للتجربة العربية الأردنية الهاشمية.
ثالثا:
تحفظ لنا وثائق الإنجليز أخطر وأهم حكمة هاشمية شكلت إحدى ضمانات البقاء لنا كأمة أردنية لا تحتكم للدم في فض النزاعات. عاد توفيق أبو الهدى بعد رحلاته التفاوضية إلى لندن مسرورا إلى عمّان، وزف خبر عرض الإنجليز للملك الموسس عبدالله، ذاك الفذ في صناعة الأوطان والأمم، (نريد أن نحل لكم مشكلة المياه بأن نضم منطقة جبل عامل (شيعة) للأردن الحديث، كي تتمتع المملكة الوليدة بوفرة مياه تحل مشكلة البوادي والصحارى). وكان رد الملك حاسما قاطعا (قل لهم يا توفيق، إنني لا أريد أن أضع فتنة في تكوين مملكتنا). كان هذا الكبير يعي خطورة (المذهبية) وما تحمله من تباغض. كان يريد مملكة متوازنة في مذهبيتها، لأن الناس تذبح بعضها على الدين وعلى المذهب.
هذا المثل يرشد من يريد إلى الحكمة الهاشمية التي نحتت (تكوين الأمة الأردنية) على صورة عبدالله.. وعبدالله ذاك المريد الشديد الحكيم هو من أسهم في تميّز التجربة الهاشمية بالاستمرار في صورة المملكة الأردنية الهاشمية. فيما لم يحالف الحظ بقية التجارب الهاشمية الأخرى بذات التميز.
رابعا:
ولئن كان الأردنيون المقيمون عربا أقحاح (جنسا وثقافة قبل الفتح الإسلامي)، فإن الأردنيين القادمين أعني الفلسطينيين كانوا عربا أقحاحا لذات أسباب الأردنيين، وعروبيين بالقسر لأن مصلحتهم حين فقدوا وطنهم أن يتمسكوا بعروبتهم ليكونوا عرب الاسترداد وليس عرب الانفصال، ومن شذَّ عن ذلك كان إما لسبب له علاقة بأنظمة عربية لها مصلحة في التحريض الفئوي، وإما لقصر نظر في استيعاب معاني الصراع مع اليهود وغزوتهم النازية.
خامسا:
ولقد أضيف إلى ذاك المذاق الذي كسا طعم الأردنية على المدى الروح الشامية والإيثار المسيحي وبعض عراق وشيء من لبنان وروائح من مصر وطعما مهنيا من أرمينيا، ويمتّن هذا النسيج فروسية شيشانية وشركسية زموا دينهم ذات ضحى وجاؤوا إلى الأمة الأردنية ليقولوا إن فروسية الجبال تخصب التجربة.
على كل هذا تأسس الأردن، وأنا أستعمل مصطلح الأمة الأردنية ليس زلة من حروف ولا تزيدا في أمر فكري. فلقد اعتدت أن أتجنب كلمة شعب، لأن الشعب في لغة القران الكريم كمرجع أول وثابت لم أعثر على رابط لها إلا للدلالة على بني إسرائيل. ونحن حماة الأمة وركنها المخاطب مباشرة من الله جل في علاه (كنتم خير أمة أخرجت للناس). والأمة: ناس ونص وقيادة وجغرافيا؛ والناس متعددون في الأصول متوحدون في القيم. وليس مثلنا أحد في ذلك.
لو أن عددا من البناة لهذه الدولة قد بعثوا من مراقدهم، مثل حسين الطراونة ودليوان وكنيعان وفيصل ابن جازي وناصر البركات وأمين أبو الشعر وشوكت الخصاونة وسالم الهنداوي وسودي الروسان وكايد المفلح العبيدات وعلي باشا الكايد وفهد جرادات وطلب أبو عليم وابن قلاب وقاسم بولاد وموسى بينو وصالح المعشر وشاكر الطعيمة وفرحان شبيلات وأبو عودة القرعان ونمر الحمود وعادل الشكعة وأحمد طوقان وأنور الخطيب ورشاد الشوا ومحمد علي الجعبري وغالب القسوس ورفعت عودة وبهجت أبو غربية وقبلهم الأميرلاي سعيد باشا خير وصدقي القاسم، وشاهدوا كلهم أو بعضهم (هوشة مجلس النواب) هل سيبكون!؟ هل سيضحكون!؟ هل سيغضبون!؟ أعتقد لا شيء من هذا، بل سيفهمون أن جيل الأبناء والأحفاد قد قاربوا الخطاء حين قبلوا أن تكون لغتهم منحازة لعصر العولمة، وتخلوا شيئا فشيئا عن قيم الأمة الأردنية النبيلة.
الأردن ليس بشعا.. والأردن ليس جائعا.. والأردن ليس ضعيفا ولا مضطربا.. الأردن دولة ومجتمع أضر به وبسمعته (موظفو دولته) المتذابحون على مصالح صغيرة. والأردن يقبل طوال عمره التنوع والتعدد والرواح إلى بعيد في الاختلاف، لكن عمر الأردن ما قبل أن تكون الخيانة له وجهة نظر. مؤخرا قارب ما يجري مستوى الخيانة. فالأردن لا يستحق من طليعته هذا الانحدار، وهذا التشكيك الدائم بكل شيء فيه جميل.
ملكنا أحلى حاكم عربي شكلا ومحتوى ومواقف وفهما لطبيعة المرحلة الراهنة. أمتنا أكثر تكوين متحد في الإقليم والمنطقة، وإلا لماذا داعش فتكت وهتكت وجاست خلال الديار في سوريا والعراق، وباءت بفشل من الله ومن عندنا؟!
لقد خاضت داعش أشرس حرب ضد الأردن في غزوة إربد، ودم راشد الزيود يذكرنا أنهم أرادوا الشمال (درعا ثانية) وأفشلهم الدم الأردني الزكي. سألت رجل الأردن الشهم الصديق والأخ فيصل الشوبكي يرحمه الله (سيدنا حمل المجرفة وشارك في دفن راشد؟! لماذا يا أبو فادي؟ سيدنا زعيم أمة، ليش يشارك في الدفن يكفي أنه حضر العزاء. تنفس عميقا عميقا وبحزن لكن بإرادة أردنية أجابني: أحمد، سيدنا أراد أن يرسل رسالة لداعش: دم راشد سيدفن محاولاتكم كلها مهما تعددت ولن تفلحوا). بعدها وقعت غزوة البقعة بهدف تقسيم الناس جغرافيا، وخابوا. ثم وقعت معركة القلعة الضارية ورش سائد المعايطة رذاذ دمه الدافئ على كل بواباتها، وخابت داعش من جديد. بعدها، انتهوا في نقب الدبور وقالت السلط قولتها.. نحن أمة جربنا من قبل، ليس مرة واحدة.
الأردن الآن هو الدولة الوحيدة في المنطقة المعرفة الحدود. والأردن هو الأمة التي يتصارخ فيها ناسها. ولا نضطر أن نسقط جنسية عن أحد حتى نفرج عنه ونبعده. ثمة فائض من حرية. وأنا بصراحة لا يقلقني النقد والإسفاف بالكلام، بقدر ما يحزنني هبوط المستوى وإفشاء الاشاعة الكاذبة، ونكران الواقع.
الليرة التركية تتدهور أيها المتغزلون بالاقتصاد التركي ونقلتم أموالكم إلى هناك. ولبنان يتمنفخ فيها حسن نصرالله على جعجع، وسمير يجعجع على الجميع ولا ليرة في لبنان. والعراق قسمته المذاهب والنفط يجاور العتمة هناك. وبلد الحرمين.. بلاد الحج والنفط والخير تشتبك في حرب ضد (الدرون الحوثي). وسوريا الله يردها موحدة. وليبيا تصارع لإخراج المرتزقة، والسودان القتلى في الشوارع، والفلسطيني الذي أعياه تقديم التضحيات لمئة سنة خلت موجوع بالاحتلال ومجروح في كبرياء الروح. ماذا تبقى لنا لنذكر؟ ايران الدولة العظمى تحت ألف حصار. ومن يخشى من تعاظم كيان اليهود وأنه سيسيطر علينا، فقد عجزوا عن اقتحام مخيم جنين، والدنيا تغيرت، والعالم أصبح أكثر إلماما بكذب أسطورة الظلم اليهودي. (وإذا عندهم المية، نحن عندنا الطاقة، ليش تصغير الأكتاف، ولماذا تكسير مجاديف الوطن!)
عبدالله الثاني ابن الحسين استلم وطنا بمساحة محددة لم ينقص في عهده سم واحد. واستلم الدينار رابع أقوى عملة عربية ما هبط والحمد لله مرة واحدة. وعبر فينا غزو العراق، والانتفاضة الثانية، والربيع العربي، ودمار سوريا، وسقوط نظام مصر مبارك، والأزمة الاقتصادية العالمية (الركود)، ثم فتحت نار جهنم على الدنيا بفيروس النحس الكورونا، كل هذا ونحن لم نقل لهذا المليك: شكرا، يكثر خيرك.
فقط أطلب من النخبة عطوة هدنة نتنفس فيها ونصفن، لنرى كيف سننطلق من جديد، وكما بنى عبدالله المؤسس وطنا ظلت روحه فينا، وكما ترك الحسين الباني إرثه في عقولنا (الأسرة الأردنية الواحدة)، دعونا نكون مع عبدالله بن الحسين الملك الزين كحيل العين، الملك النهضوي المجدد.