عندما نتحدث عن حرية التعبير، نتذكر جزءاً منه، وننسى جزءاً آخر لا يقل أهمية عنه.
أما الجزء الذي نتذكر، فهو حق الفرد ذاته في التعبير عن رأيه.
وهذا أمر على قدر كبير من الأهمية، أتت به العديد من الديمقراطيات لتمكين الأفراد فيها من الإدلاء بدلوهم في الأمور التي تهمهم: سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتربوياً، وعلى كافة الأصعدة الأخرى التي تحكم علاقة الفرد بالمجتمع والدولة.
المبدأ هنا أن الديمقراطيات تُشجع شعوبها على الانخراط في القضايا العامة، مناقشةً وحواراً وتعبيراً وتصريحاً.
كما تُشجعهم على تبنّي مواقف واضحة من القضايا والإعلان عن تلك المواقف والترويج لها. لا بل إن نجاح تلك الديمقراطيات يرتبط ارتباطاً وثيقاً بكفالتها لحرية التعبير وحرية النشاط وحرية العمل لأفراد المجتمع الديمقراطي وفق برامج واضحة ومحددة.
هذا كله صحيح.
لكن لا بد من التذكير بأن حرية الفرد في التعبير والنشاط، في الديمقراطيات، ليست حرية مطلقة، كما قد يظن البعض.
إنها حرية مُقيّدة، والقيد هو القانون.
الكل يعرف أن لا أحد فوق القانون في الدول الديمقراطية؛ لكن ربما يغيب عن أذهان بعضهم أن لا شيء فوق القانون كذلك، بما في ذلك حرية التعبير.
الشق الأول إذاً في معادلة حرية التعبير، أن الأفراد لا بد من أن يتمتعوا بحرية التعبير، ضمن ما تُجيزه القوانين.
أما الشق الثاني والمنسي فهو–من باب حرية التعبير نفسها–ضرورة الاستماع إلى آراء الآخرين واحترامها.
أحياناً، بقصد أو بغير قصد، نتحدث عن حرية تعبير مُختزلة أو مبتورة، تتكون من الشق الذي يهمنّا – حرية تعبيرنا نحن وحقنا في أن يستمع لنا الآخرون– وننسى أن للآخرين حقاً في أن يُعبروا عن أنفسهم وحقاً في أن نصغي لهم.
وحقيقةً إن هنالك تقصيراً على هذا البعد الأخير في مجتمعنا، فالشق الثاني المتصل بحق الآخرين في التعبير عن آرائهم وفي حقهم أن نستمع لهم هو شبه مغيب عندنا. وهو ما يُفسر غياب الحوار والتفاهم والاتفاق، وسيطرة الأحادية في الطرح والأنانية والتوتر والتأزم، وأحيانا العراك بالأيدي.
غالباً ما نشعر أن لا أحد في مجتمعنا يستمع لأحد؛ فالكل يرسل، ولا أحد يستقبل.
الانتباه لشق واحد من حرية التعبير ونسيان الشق الآخر يجعلان الفرد يظن أن مهمته تتمثل في التحدث فقط، على حساب الإنصات للآخرين. والمحزن أن مهارة الاستماع، والتي هي بأهمية التحدث، شبه معطلة عند الكثيرين في مجتمعنا.
والحل يكمن، من خلال التنشئة الأسرية والمدرسية والجامعية، في تعليم الأفراد وتدريبهم على مهارات التواصل الفاعل، والتي تقوم على العناية بالإرسال والاستقبال في آن واحد.
وهذا من شأنه أن يجعل الأفراد يتحدثون بلطف، لا بغلظة، بكياسة وحصافة وأدب وحكمة، لا بانفعال وخشونة وتجريح؛ ويجعلهم ينصتون للآخرين ويصغون لآرائهم ويحترمونها، الأمر الذي يساهم في إشاعة ثقافة أدب الحوار والتفاهم وإصلاح ذات البين والسلم المجتمعي.
حرية الرأي تتكون من شقين لا من شق واحد؛ ولا بد من العناية بالشق المنسي المتصل بالاستماع للآخرين واحترام آرائهم.
(الرأي)