من عالم القطب الواحد إلى عالم القطبين
د.أحمد بطاح
08-01-2022 08:06 PM
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991 وهو ما اعتبره الرئيس الروسي بوتين أعظم حدث (جيوسياسي) في القرن العشرين تفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم حيث أصبحت بلا منازع أغنى دولة في التاريخ (يشكل اقتصادها ربع اقتصاد العالم). كما أصبح جيشها أقوى جيش في العالم (لها 1000 قاعدة عسكرية في 80 دولة).
ولكن مع تصاعد قوة الصين واحتلالها الموقع الثاني بعد الولايات المتحدة اقتصادياً، وارتيادها الفضاء بقوة، وتسلحها المتنامي وبالذات في المجال البحري حيث تمتلك أكثر من (750) قطعة بحرية متنوعة، ومع تعاظم نفوذها العالمي (وبالذات في أفريقيا) من خلال مشروعها الدولي العملاق المسمى " بالحزام والطريق" مع كل هذه التطورات الصينية أخذ نظام دولي جديد يتشكل بهدوء ولكن بقوة وهو مؤلف أساساً من قطبين متعددي المكونات هما: الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ( يضم 27 دولة أوروبية) يدعمه بريطانيا وأستراليا ( عقدت الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا حلفاً للحفاظ على أمن المحيطين: الهادي والهندي) من جهة، والصين وروسيا معززتين بقوى كثيرة أهمها جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق من جهة أخرى.
إنّ الملاحظ هو أن هذين القطبين العملاقين يتوفران على معظم القوى النووية الاستراتيجية، ومعظم مصادر الطاقة، ونسبة معتبرة من سكان العالم (سكان الصين وحدها خمس سكان العالم)، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل كل قطب من هذين القطبين منسجم في مكوناته إلى الحد الذي يجعله يبقى ويستمر ربما إلى نهاية القرن؟ والجواب على هذا السؤال هو نعم فالقطب الأول الذي يضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مدعماً ببريطانيا وأستراليا هو تحالف تاريخي له ذراع عسكري هو حلف النيتو، وذراع اقتصادي هو الاتحاد الأوروبي، ولا نبالغ إذا قلنا بأنّ المنظومة القيمية فضلاً عن المصالح المشتركة التي تشيع في دول هذا القطب هي واحدة وهي في الجوهر قيم الليبرالية الغربية، والواقع أنّ مكونات هذا التحالف أثبتت انسجامها وتوحدها منذُ الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945)، ولم تتصدع إلّا قليلاً في فترة رئاسة ترامب الذي كان يريد مزيداً من المساهمة المالية من حلفائه الأوروبيين في مجال الإنفاق العسكري على حلف النيتو وعند خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قبل سنوات، علماً أنّ سياسة بريطانيا ظلت مع أقوى تنسيق ممكن مع أوروبا ومع أعمق تحالف ممكن مع الولايات المتحدة.
ولكن ماذا عن مكونات القطب الآخر أي الصين وروسيا؟ إنّ هنالك مشتركات كثيرة تجمع هاتين القوتين تجعلهما تنسجمان (برغم العداء الذي ساد بينهما بين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي) ولعل أهمها:
أولاً: تكامل القوة بينهما فالصين هي ثاني قوة اقتصادية في العالم ولكن روسيا تملك مخزوناً هائلاً من الطاقة وبخاصة على صعيد النفط والغاز مضافاً إلى ذلك أنها ثاني قوة نووية إستراتيجية في العالم إن لم تكن مكافئة تماماً للولايات المتحدة في هذا المجال.
ثانياً: روسيا هي الأسبق والأكثر خبرة في مجال الفضاء (كانت أول من أرتاد الفضاء حيث أطلقت أول رائد فضاء في التاريخ هو "غاغارين" على متن "سبوتنيك" في عام 1957)، ولكن الصين بدأت ترتاد الفضاء منذُ فترة غير قليلة وسجلت بعض الإنجازات غير المسبوقة في هذا المجال كنزول روادها على الأجزاء المظلمة من القمر لدراسته.
ثالثاً: كل من الصين وروسيا هجر الأيديولوجيا الشيوعية بمفهومها الماركسي – اللينيني فالصين انتقلت بقيادة "دونغ هسياو بنغ" منذُ عام (1978) إلى تبني "سياسة الإصلاح والتحديث" وهي سياسة برجماتية ضمن المفهوم الشيوعي تطلق عليها "الشيوعية ذات الخصائص الصينية"، أما روسيا فقد نبذت الشيوعية كأيديولوجيا ولكنها بقيت دولة سلطوية متأثرة بالقيم الاشتراكية وتتطلع إلى وراثة الاتحاد السوفياتي بصورة أو بأخرى.
رابعاً: الصين وروسيا كلاهما مستهدف من الغرب فالعداء بين أوروبا والولايات المتحدة وروسيا تاريخي ويكفي في هذا السياق أن نشير إلى أنّ روسيا تعرضت لغزوتين أوروبيتين هائلتين كانت الأولى على يد نابليون، وكانت الثانية على يد هتلر، كما يكفي أن نتذكر الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة (1945 – 1991)، أما استهداف الصين من قبل الغرب فهو حاصل لا محالة لأن الصين فرضت نفسها على المستوى الاقتصادي، وهي بلا شك سوف تفرض نفسها على صعيد النفوذ الدولي.
خامساً: استمرارية هذا التحالف بين الصين وروسيا فمنذُ وفاة زعيم الصين التاريخي ومؤسسها " ماوتسي تنغ" في عام (1976) بدأ تحالف غير معلن ولكن يتعزز يوماً بعد يوم مع الاتحاد السوفياتي أولاً (حتى 1991) ومع روسيا لاحقاً، وهو الآن وبعد مرور نصف قرن تقريباً واضح تماماً من خلال التنسيق السياسي بين الدولتين والمناورات العسكرية المشتركة بينهما وغير ذلك كثير.
إنّ الظروف الدولية حُبلى بالمتغيرات دائماً ولكن هناك عوامل تحكمها بالطبع، ولعلّ من الجلي للقارئ السياسي أن العالم ينتقل من عالم القطب الواحد (حيث تتربع الولايات المتحدة منفردة على عرش العالم) إلى عالم القطبين حيث قطب الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون من جهة، وقطب الصين وروسيا من جهة أخرى.