فريز .. المحافظ الليبرالي
د. ابراهيم سيف
08-01-2022 11:32 AM
يجمع كثيرون بأن احد المؤسسات الراسخة والتي حافظت على سوية عملها ونجحت في التكيف مع الكثير من المستجدات في المجالين المالي والنقدي هي مؤسسة البنك المركزي الأردني، تلك المؤسسة العصرية أسست الثقة بها من الطبيعة المتسقة لسياساتها، وضوح خطابها وعدم الارتباك والانجرار وراء الكثير من المقترحات التي كان ترد والتي كان تدعو في جوهرها الى تغيير بعض السياسات المتبعة. وكما لاحظنا جميعا فإن جهود المركزي خلال جائحة كورونا كانت الأكثر تميزا على الصعيد المحلي.
وخلال العقد الأخير ، جلس على رأس تلك المؤسسة "محافظ" يسانده فريق مؤهل لإدارة تلك الدفة بكل اقتدار ، واكتسب ثقة تفتقدها العديد من المؤسسات العامة ، ابتداء من القطاع المصرفي الذي كان على تماس مباشر مع المركزي، وكثيرا ما غضب كثيرون منه وهو يصر على مواقفه التي حكمتها مساحة واحدة من الجميع، وظل يطرح رؤيته بشكل مباشر ولم يستكن او يخضع لأي شكل من الضغوطات التي تمارس، تلك الضغوطات كانت تأتي من كل الاتجاهات، من حكومات تسعى لإيجاد حلول خارج الصندوق وتتهم المركزي أحيانا بأنه غير مستجيب، ومن اقتصاديين كان لهم وجهة نظر في كيفية إدارة السياسة النقدية، او برلمان يسعى الى تحقيق اختراق في تلك القلعة الحصينة التي كان يحرسها أبو محمد، انطلاقا من قناعته بأن جوهر نجاح المركزي يكمن في مبدا استقلالية المؤسسة التي يرنو اليها الجميع، في هذا الباب فإن الدكتور فريز مارس دور المحافظ عل اكمل وجه، واكتسب بذلك احترام الجميع بما فيهم القطاع المصرفي رغم صعوبة إدارة هذا القطاع المعقد وأصحاب المصلحة ذوي التأثير الذي لا يستهان به، وكلل النجاح تلك الحقبة التي نثق بأن أبناء المركزي منذ التأسيس والقواعد التي ارسى دعائمها المؤسسون منذ أيام المرحوم الدكتور خليل السالم ومن تبعه ستتواصل على ذات النهج.
في الشق الليبرالي المستعار في عنوان المقالة، فإن ما حكم السياسة الاقتصادية التي حركت الدكتور فريز في الكثير من المواقع التي شغلها كوزير للتخطيط والصناعة والمالية قبل تبوؤ موقع "المحافظ"، كانت سياسة اقتصادية تؤمن بدور القطاع الخاص و بأن على الدولة تعزيز قدراتها المؤسسية والرقابية وافساح المجال امام القطاع الخاص لتنفيذ مهامه من خلال منظومة تشريعية شفافة تحقق التوازن بين المؤسسات المختلفة ومراعاة المجالات ذات الصبغة الاجتماعية ، ولم يخشى فريز يوما من توسيع دور القطاع الخاص طالما انه يأتي ضمن اطار تنشيط الاقتصاد وتوليد فرص العمل مع استمرار الدولة في تقديم خدماتها الأساسية ، فهو-فريز- يظل بيروقراطي عتيق يؤمن بأن للدولة دورا يجب ممارسته، لكن ذلك الدور يقف عند حدود معينة تمنع الزحام بما يسهل توظف موارد الاقتصاد كافة ، فهذا هو السبيل الوحيد لتحقيق التنمية المنشودة التي لم تغب عن بال "المحافظ" في مواقعه المختلفة، فهو لم يقتنع يوما بأن تحقيق الاستقرار النقدي لوحده كافي في ظل تدهور أدوار مؤسسات أخرى ، لكن التحدي كان في رفع سوية أداء بقية المؤسسات لتواكب المتغيرات والمستجدات.
وبرأي الشخصي فإن هذا هو المفهوم الليبرالي الاقتصادي الذي يجري أحيانا التجني عليه وإساءة تفسيره أحيانا.
في الشق الشخصي كنت دوما اعتبر فريز "معلما"، فأول وظيفة في حياتي العملية كانت مع أبو محمد عندما كان امينا عاما لوزارة التخطيط، كان فريق العمل في ذلك الوقت يخشى اندفاعاته، وردود افعاله، ولكنه كان يدفعنا الى المقدمة في العمل لثقته المطلقة بأن ذلك هو السبيل للمضي قدما وإيجاد قادة مؤهلين في العمل العام، ولعل كل من عمل معه يعرف انه متقد الذهن، يتقن السياسة ويقول رأيه بكل صراحة في المسائل التي تخص الصالح العام، فلا داعي للكثير من المجاملة والحلول قصيرة المدى، سيبقى "أبو محمد" معلما لجيل كامل ممن عملوا معه او تعاملوا معه عل الصعيدين المهني او الشخصي.
وسيشكل مرجعية دائمة، وكلنا امل وثقة ان مهمة المحافظ الجديد ستنطلق من تلك الدعائم التي تم ارسائها ولكن المتغيرات المتسارعة تقتضي آليات تكيف وتحديث تسهل التعامل ما يجري على الأصعدة المختلفة.