يخرج علينا بين فترة وأخرى من بين أكوام المسؤولين والمنظّرين نفر من المضللين والمشككين الذين يدّعون الفكر والمعرفة والمثالية، وحولهم ثلة من المصفقين والمصدقين، وليس لهم حديث إلا المؤامرات الخارجية والداخلية التي تحاك ضد الوطن، ليتّهموا غيرهم من المواطنين بالتآمر والخيانة، والجهل بمصالح الوطن وما يتعرض له من تحديات.
هؤلاء المسوّغون المسوّقون يريدوننا أن نصدّقهم ونصغي لكلامهم ونشتري بضاعتهم الفاسدة، وننحني لاتفاقياتهم البلفورية المشؤومة، ولتعديلاتهم المشبوهة، وتحالفاتهم الشيطانية، يريدون أن تتحول بناتنا ونساؤنا إلى نساء (سيداويات)، وإن وافقناهم الرأي نصبح في نظرهم عقلاء منفتحين، وواعين لمتطلبات المرحلة، وحريصين على مصالح الوطن، وإلا فنحن رجعيون متخلفون ومتآمرون.
نحن العوام كما في نظرهم، والمواطنين البسطاء أكثر وعيا وإدراكا منهم، لأننا نحن من قرأ التاريخ واستقى منه العبر، وعرف الجغرافيا بتعرجاتها، ونعرف درجة الرضوخ والخضوع التي وصلوا اليها ولازمتهم طيلة حياتهم، ولأنهم مهووسون بالترويج لنظرية المؤامرة الحاضرة في أذهانهم دوما، فهم من يجهلون الحقائق أو يتجاهلونها، وهم من يعيقون مسيرة التقدم والتنمية، لذلك فهم يعانون من عجز فكري، ويلجئون إلى تسويق نظرية المؤامرة لتغطية فشلهم وتخلفهم واخفاقهم، ويجعلون منها شماعة لتحقيق مصالحهم ونواياهم، وإسكات الأصوات الحرة، وبالتالي هم من يتآمرون على أنفسهم ومن حولهم، ويفسحون المجال لعبث المتربصين الحاقدين من أعداء الوطن.
هم لا يريدونك إلا خانع خاضع مثلهم، وإن قلت لا في غير التشهد فأنت متآمر متخاذل جاهل بما يجري من حولك، كلامهم صواب لا يحتمل الخطأ، ولا يختلف عليه اثنان، فهم أصحاب الفطنة والدراية، فقط هم من يعرفون مصلحة البلد، وهم من يعرفون التحديات الخفيّة من حوله، والمؤامرات التي تحاك ضده، أكلوا في أنفسهم المقلب وصدّقوه، وراحوا يُنظّرون علينا بكلام مكرر بات طعمه مر، ورائحته كريهة، يعرفه ويدركه الكبير والصغير وحتى المقمط بالسرير.
هل باتت المؤامرة كابوسا في ذهنية المواطن الاردني، وهل باتت التفسير الأسهل لمشاكلنا، وهل كل اخفاق وفشل نمر به بسبب مؤامرات تحاك ضدنا، أم أن ذلك بسبب عجزنا وتقصيرنا، وسياساتنا الخاطئة، وبسبب الفساد الذي ينخر منظومتنا الادارية والسياسية والاقتصادية، قد يكون هناك من يتآمر علينا، لكن معظم الحديث عن المؤامرات مع كل حدث أزومي هو حديث مزعوم.
لذا لم نعد نقبل أو نصغي لمتخم حد السمانة أن يعضنا، ولا لشارب حد الثمالة أن يتهمنا، ولا للسكارى والمقامرين أن يخوّنوننا، فالمواطن في الفيافي، والباعة على جوانب الطرق، والقاطنين على جوانب الأودية، وحتى الجوعى من أكلة بقايا طعامهم أكثر ذكاء وولاء وانتماء وحبا للوطن، وهم المدافعون عنه وقت الشدة، وهم من يضعون سيوفهم على عواتقهم، وهم المدركون أكثر من غيرهم أن تراب الوطن هو الركن الشديد الذي يأوون إليه عندما تحين ساعة الوغى.
لن نستمع لهم، لا بل سئمنا وعافت أنفسنا كلامهم ذي الطعم الآسن، ولن نرضخ طائعين لكل خوّان أثيم، ولا لأمر المسرفين، الذين يزنون بالقسطاس الأعوج، ولا لأولئك الذين نحتوا في الجبال قصورا فارهين، فهؤلاء آخر من يتحدثون عن حب الوطن والانتماء لترابه.
لقد شبعنا حد القرف من نظرية المؤامرة والتخوين، ولا أحد غيرهم من يخون الوطن ويتنكر لخيره، فالذي يرفع اسعار السلع والمواد الغذائية، وأسعار الكهرباء في السر والعلن، والذين يتركون الوطن ساحة بلا حسيب أو رقيب لجشع طغمة ضالة من التجار والفاسدين ينهشون جسد المواطن، ويأكلون لحمه حيا هم من يتآمرون على الوطن، وهم اصحاب الأجندات الخارجية، وهم من يدفعون بالمزيد من القهر والظلم حد الانفجار والانفلات، وهم من يضعون اصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعون صوت الحق، وهم من يضعون العصي في الدواليب، وهم من يخرقون سفينة مساكين الوطن ويدفعون بها للغرق.
لن نحترم، ولن نوقّر، ولن نؤمن لمسؤولين قنّعوا أنفسهم بقناع انساني ووطني زائف خدّاع، ولا تعرف وجوههم من ظهورهم، وقد نطفت ألسنتهم ونطقت كلاما مداهنا ومعسولا، يروغون ويتصنّعون الحلم والوقار والولاء، والحرص على مصالح الوطن، ويخفون ما في صدورهم غير ما يعلنون، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويفعلون ما يملى عليم وما يؤمرون.
إذا كان هناك حقا من مؤامرات تحاك ضد الوطن فلا بد من التصدي لها بتحصين المواطن ضد هذه المؤامرات، وتمتين الجبهة الداخلية، والوقوف مع المواطن ومراعاة مصالحه واحتياجاته ولقمة عيشه، والاستماع لرأيه، والوقوف على همومه وتطلعاته بدلا من تسويق الأوهام، والتحالف مع الشيطان الذي لن يزيدنا إلا خبالا ووهنا، وهي أفضل السبل لمواجهة المؤامرات والتحديات الداخلية والخارجية، ويكفينا الترويج للكذب والتدليس، والتعلل بمؤامرات معظمها وهمية، وذرائع لتبرير الانحناء والسقوط، وتمرير مخططاتهم المشبوهة.