: " الحلقة الثالثة عشرة "
بعد أن قضى الرومان على المملكة النبطية في البتراء عام 106 م ؛ اخذ الرومان يخطبون ود البدو في سورية وشرقي الأردن بالمعاهدات والاتفاقيات والمال ، وكانت أول قبيلة نزلت على التخوم الرومانية هي قبيلة تنوخ من قضاعة ، والتي كانت قد نزحت غربا حوالى عام 230 م لأنها لم تقبل أن تخضع لحكم الفرس الذين كانوا يضطهدون البدو في ذلك الزمن ويخرجونهم من بلادهم ، وقد كان التنوخيون أول حلفاء الرومان من العرب ، فقد ذكر العرب ثلاثة من ملوكهم وهم : النعمان بن عمرو، وعمرو بن النعمان ، والحواري بن عمرو ، وحين هاجرت قبيلة الضجاعمة إحدى فروع سليح العدنانية من قضاعة حلت محلها في مراعي مؤاب والبلقاء الخصبة ، وظل الرومان يعترفون بسيادة هذه القبيلة إلى أن ظهر الغساسنة في سوريا وشرقي الأردن .
وتعرضت شرقي الأردن وبلاد سورية في أواخر القرن الثاني للميلاد لهجرات تدريجية حدثت بعد خراب سد مأرب في اليمن وبعد "السيل العرم"، أي بدءاً من أواخر الألف الأول قبل الميلاد. فكان من هذه الهجرات "المناذرة" في الحيرة العراق ، والغساسنة في جنوبي سورية وشرقي الأردن .
ويعود أصل الغساسنة إلى قبيلة الأزد ، فقد استقروا في تهامة قرب عين ماء اسمها "غسان" فحملوا هذا الاسم ، ثم نزلوا مشارف الشام وتغلبوا على قبائل "الضجاعمة" التي كانت تنزل هناك ، وأنشأوا دولة عاصمتها بصرى ربما تكون " بصيرة" الحالية قرب الطفيلة ، واعتنقوا المسيحية، وكانوا حلفاء الروم فاشتركوا معهم في حروبهم مع الفرس وحلفائهم المناذرة العرب، ومن أكبر شعرائهم امرئ القيس وجذم بن سنان الغساني وعبد المسيح بن عمرو وعدي بن العلاء الغساني.
حكم الغساسنة ستمائة سنة أي من أوائل القرن الأول الميلادي إلى ظهور الإسلام ، من 220-632 م ، وكانت لغتهم العربية والآرامية ، فكان عدد ملوكهم 32 ملكا ، كان أولهم "جفنة بن عمرو"، وآخرهم جبلة بن الحارث ، وقد امتد سلطانهم على جميع سورية وشرقي الأردن إلى تدمر والرصافة وإلى البحر. ومن آثارهم صهاريج الرصافة والقصر الأبيض والأزرق وكثير من الأديرة ومن آثارهم في شرقي الأردن قصور القسطل والزرقاء وقصر المشتى وحمام السراح ، وقد التحق بالغساسنة شعراء مشهورون مثل ؛ لبيد والنابغة الذبياني وحسان ابن ثابت.. وقد اشاد بذكر الغساسنة بعد موت الحارث الشاعر النابغة الذبياني حيث يقول :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وقد كان الغساسنة بناة مشهورين ، على طول حزام السهوب والبادية الممتدة من الفرات إلى خليج العقبة. وشهدت هذه المنطقة على أيدي الغساسنة عمليات تجديد كبيرة للأبنية والمنشآت ، كما أضافوا إليها بتشجيع من الحكام الأمويين إضافات. وشيدوا كذلك أديرة عديدة، وقد بقي من تلك المباني حتى يومنا هذا: برج الدير في قصر الحير الغربي بين دمشق وتدمر، والإيوان بالرصافة .
كان الغساسنة من القائلين بالطبيعة الواحدة للمسيح. وقام أشهر ملوكهم الحارث بن جبلة الذي حكم خلال الفترة من(529-569م) قام بإحياء الكنيسة المونوفيزية. واستعمل الغساسنة كتاب قراءات من الكتاب المقدس باللغة العربية. وهذا ما يشهد لهم على تعلقهم بالهوية العربية. وقد وجدت نقوش عربية في أديرة وكنائس تابعة لهم بينها النقش الطويل في دير هند بالحيرة فضلاً عن نقش حرّان، وهو النقش العربي المسيحي الوحيد الذي بقي من ديار غسان.
وقد ظلّت الجابية التي كانت تقع في هضبة الجولان السورية عاصمة للغساسنة ومركزاً سياسياً وعسكرياً مهماً طوال العهد الأموي. وكان الغساسنة كالتنوخيين والسليحيين موالين أصلاً للبيزنطيين فاكتسبوا من هؤلاء مهارات إدارية وعسكرية وضعوها تحت تصرف الأمويين اللذين اعتمدوا على هذه القبائل وبخاصة غسان وجيزان وكلب في أعمال إدارية وعسكرية. وكانت غسان قد حمت الحدود السورية لصالح الإمبراطورية البيزنطية.
أما المناذرة فهم "تنوخيون" مزيج من "قضاعة" و"الأزد"، نزحوا بعد خراب السد في "مأرب" وأسسوا في الحيرة مملكة استمرت من 268-631م. إن أشهر تراثهم قصر الخورنق وحصن السدير، وكانوا من حلفاء الساسانيين. ويروي ابن قتيبة قصة الحرب الشهيرة بين المناذرة والغساسنة في "يوم حليمة " في عام 554 م حيث قتل المنذر وتشتت جموعه .
- وقد استثمر الرومان والفرس هؤلاء الأعراب في حروبهم فقد كان القتال يقتصر بين الغساسنة حلفاء الروم والمناذرة حلفاء الفرس . وقد جعلت الإمبراطورية الرومانية حاجزا منيعا من هؤلاء البدو على حدود ممتلكاتها لصد هجمات الفرس وأتباعهم ملوك الحيرة .
- وقد أعاد هرقل تأسيس المملكة الغسانية عام 629 م بعد انتصاراته على الفرس ونصب جبلة بن الأيهم ملكا عليها ، وفي هذه الآونة كانت جيوش المسلمين تضغط على ممتلكاته من الجنوب .
إلى أن نلتقي في الحلقة القادمة تحية لكم والى اللقاء