صدق أو لا تصدق عزيزي القارئ أنني تمكنت مؤخرا أن أبقى صامتة تماما لمدة ثلاثة أيام بلياليها، ولا أقول أنني لم أتحدث إلى أحد، بل لم أنطق حرفا واحد بيني وبين نفسي مهما كان حتى التأوه من الصداع أو التأفف من الموقف بل وحتى التثاؤب عند النوم ابتلعت نصفه الأخير حتى لا تصدر مني زفرة نهايته، بالطبع تجنبت الأخبار الطريفة حتى لا أضحك، وماذا كانت النتيجة؟ النتيجة هي أنني طالعت من الكتب والصحف والمجلات العدد الكبير، وتعمدت قراءة أخبار الحوادث وأعدت قراءتها عدة مرات. فقد وجدت فيها مصائب هانت معها مصيبتي بإلزام نفسي الصمت أعترف أنني قمت ببعض الايماءات بالرأس للتعبير عن القبول أو الرفض حتى التوت رقبتي، كما قمت أيضا بإشارات عن طريق السبابة والإبهام للإشارة أو الاستحسان، وقتها أدركت حقيقة قيمة أعضائنا... كلها وليس فقط قيمة اللسان، وهنا أعترف بكل صراحة وأنا في كامل قواي العقلية ، أنني لم أذكر اسم الله تعالى على طعامي ، كما لم أحمده بعد الانتهاء من التهام وجبتي واكتفيت بما وقر من إيمان في قلبي وعملت به حواسي وجوارحي وخاصة حاستي النظر والسمع ، فكان المذياع رفيقي في الليل، والتلفزة أنيستي في بعض الفترات من النهار، أما عقلي فتمرد وأعلن عصيانه إذ انصرف إلى تقليب صفحات الماضي القريب والبعيد فكانت فرصة لاسترجاع ذكريات سنين طويلة منها الحلوة وطبعا منها المرة ، كانت فرصة حقيقية لأختلي بنفسي دون إزعاج من أحد لإعادة تقييم مواقفي كلها من الأشخاص ، من المشاكل العائلية ومن الحياة كلها، كادت نجاحاتي السابقة أن تخرجني من حالة التحدي التي فرضتها على نفسي بالتزام الصمت، كما كادت أخطائي أن تنطقني بكلمات الأسف والندم والتحسر.
كان معلوما لجميع أفراد أسرتي تجربتي هذه وأن مدتها ثلاثة أيام فلم يزعجني أحد عمدا باستثناء بعض الصغار التي أحالت شقاوتهم صمتي جحيما، كما لا أنكر أن بعضهم بحكم العادة واللياقة والأدب قد نسي في اليوم الأول حالتي بإلقاء السلام ـ مثلا ـ دخولا وخروجا وفي اليوم الثالث والأخير كان احترام إصراري على إكماله صامتة محل التزام الكل، حيث لم يبقى أكثر مما مضى، ولا أدري كيف صبروا على إمساك املاءاتهم المعتادة علي كالتذكير بالمهام اليومية التي تتلقاها أسماعي في كل صباح والتنبيه بالواجبات الروتينية التي جعلت أيامي متشابهة بينما كان من المفروض وكما أتمنى دائما أن يكون صباحي بداية ليوم جديد... جديد في كل شيء لا أن تكون حتى أيامنا القادمة مثل الماضية دائما قديمة مسبقا ، ربما كان التزامي الصمت هو الشيء الجديد والمثير بالنسبة لي وللعائلة، فصمتي كان محور أحاديثهم الطويلة وتعليقاتهم الساخرة، عشرات المكالمات الهاتفية تهاطلت على منزلي لمعرفة ما وصل إليه حالي .. هل تكلمت؟ هل نطقت؟ ما الفائدة من كل هذا؟ وكان ما يثر في هو حكم بعضهم علي بالمجنونة ، بينما المجنون في الحقيقة ينطق ولكن بألفاظ مبهمة لا تتفق معانيها مع الحدث أو الموقف بمعنى أنه ... ولكنه يتكلم .
إنني الآن في آخر ليلة من مدة التحدي ، أشعر بنشوة الانتصار وبمعنى الإرادة والإصرار، شعور عميق بالفرح يهز قلبي وتنشرح له نفسي و لمجرد أن خطر ببالي أنني الآن أنتصر... ولكن سؤالا خبيثا تسلل خلسة إلى نفسي يحاول محاولة خسيسة أن يفتر عزيمتي.. على ماذا انتصرت؟ نفسي تحدثني أنني أنتصر على اللجاجة، وعلى الثرثرة، وأيضا على الفضفضة ، فطول اللسان أهلك صاحبه ، وضعت المخدة على رأسي وانكمشت ، لا أريد حوارا عقيما ، لا أريد أفكارا خبيثةـ أريد صباحا جديدا أنواره تتسلل ببطء إلى الغرفة ويتراجع أمامها الظلام.. لم أتمالك نفسي من الفرحة هرعت إلى كل فرد وألقيت عليهم عبارتي الشهيرة ، صاحوا من شدة دهشتهم وكأنهم كانوا في شوق إلى سماع صوتي.. كان صباح يوم جديد بالفعل لأنه اختلف عن سابقه ، وقبل سماع أي تعليق بادرتهم بدعوة قلبية خالصة .. تعالوا نتكلم..
الكلام نعمة ، فهو روح الحوار ، تذكرت في غمرة فرحتي بانتصار إرادتي ، تجربة غريبة جرت مؤخرا قضت بحبس خمسة أطفال أتموا عامهم الأول مع خادمتين ، كلتاهما بكماء، لرعاية شؤونهم فقط، راحت التجربة بضعة أشهر وكانت النتيجة وفاة الأطفال الخمسة .. إنها تجربة مريرة برغم ما تحمله من تأكيد على حيوية الحوار كحاجة أساسية كوسيلة اتصال فضلى بين البشر.