السؤال الجوهري المُغيب في معركة الإصلاحات السياسية
سامح المحاريق
05-01-2022 04:31 PM
معظم المواطنين الأردنيين غير معنيين بما يجري في مجلس النواب، والمواطنات الأردنيات اللواتي أثيرت من أجل تاء التأنيث الخاصة بهن معركة نيابية واسعة ينشغلن بالمستجدات على رفوف محلات الخضروات أكثر من كل هذه التفاصيل، واللجنة الملكية التي عملت لأشهر متصلة في إعداد مصفوفة الإصلاح السياسي تدرك في معظمها أن دورها ينتهي مع التكريم الملكي لجهودها في الدفع بحزمة الإصلاحات السياسية إلى مجلس الأمة، فما الذي يخلق الاحتقان اليوم؟
قدمت اللجنة المخرجات من أجل إصلاح سياسي يسهم في تعزيز مشاركة المواطنين، واحتراماً للدستور القائم وتقاليد الدولة الأردنية اتخذت حزمة الإصلاح السياسي مسارها الطبيعي ضمن القنوات المؤسسية، نختلف أو نتفق في آرائنا حولها، ومجريات الأحداث كانت طبيعية ومتوقعة، فهذه القنوات تنتمي إلى الوضع الذي تسعى حزمة الإصلاح إلى التعامل معه، ولنقل إلى تفكيكه، ومن الطبيعي أن تحدث المقاومة، صراحةً ومواربةً، كما أن المشكلة لا تتوقف عند ما يحدث تحت القبة، فصالونات عمان السياسية واللاعبون السابقون والمتطلعون إلى أدوار في المرحلة المقبلة، جميعهم يغذون حالة من الارتباك، مع وجود كتلة من مصلحتها تعطيل الإصلاح برمته، وهي الكتلة التي صعدت على أكتاف التكنوقراطية الأردنية أو تحالفات العلاقات من غير أن تمتلك عمقاً في الشارع الأردني، فهي لا تستطيع أن تتواصل معه فكيف يمكن أن تؤثر عليه؟
الأسئلة الكبرى حول الإصلاح السياسي لم تطرح، لا المجلس تصدى لمناقشتها، ولا الإعلام الأردني تمكن من التقاطها، فالإعلاميون الأردنيون كائنات سياسية، ونتيجة مظلومية الإعلام الأردني فإنه يكاد ينحصر في أداء دور المنصة للدفع بفلان أو علان إلى منصب أو منفعة، ذلك أن الدولة تخلت عن منح الإعلاميين ما يكفي من الأدوار، ووضعتهم تحت طائلة القوانين وأدخلتهم في التحالفات، فأصبح وجود الإعلامي المستقل في الأردن أمراً متعذراً، أو على الأقل، صعب التحقق.
السؤال الجوهري بخصوص الإصلاح يتمثل في مقارنة الوضع الذي يسعى الإصلاح إلى تحقيقه مع الوضع الحالي؟ هل هو وضعٌ أفضل؟
تمكين الأحزاب ليس مجرد قوانين أو نصوص، فالأحزاب هي التي ستتولى عن الدولة فكرة الانتخاب الطبيعي لعناصرها بحيث يكون البقاء للأنسب في كل مرحلة سياسية، وفي داخل الحزب يمكن تأهيل الفاعلين السياسيين في الفكر وتعزيز قدرتهم على التواصل، ولن يكون علينا أن نتحمل نزوات بعض رؤساء الحكومات الذين يقدمون خياراتهم من خلال محيطهم الشخصي، وبناء على تجارب تكاد تكون بعيدة عن متطلبات العمل الحكومي، والأحزاب هي التي ستتولى العمل لتشكيل حواضن لتجنيب الوزراء الذين يمثلونها التكلفة الخاصة باتهامات الفساد المرسلة التي حولت الوزير إلى مجرد مسؤول يحاول أن يتقي الاتهامات ويبدد معظم جهوده في الدفاع عن نفسه وأفكاره ومشاريعه.
هذه الأرضية تتطلب تصميم نظام انتخابي يقوم على تمكين الأحزاب سياسياً، وسنفشل مرة ونستفيد من الدروس وسنعيد التجربة وصولاً إلى المرحلة التي يمكن أن تتشكل خلالها حكومات حزبية، ستكون في معظمها ائتلافية لن تتمكن من التقدم بصورة ملموسة في البداية، وصولاً إلى الاستقرار حول رؤية وطنية شاملة.
من السهل في بلد مثل الأردن أن نحصل على حكومة يمكن أن تقدم وعوداً بتحويل الأردن إلى سنغافورة أو سويسرا، وتطلق خطابات نارية ضد هذه الدولة أو تلك، والمواطن الأردني ليس معنياً لا بالوعود ولا بالتهديدات، هو يريد أن يرى طريقاً واضحاً يمكن أن يبني مستقبله على أساسه، ويريد حكومة تستطيع أن تساعده على تخطيط حياته وبناء شبكة أمان اجتماعي، يريد حكومة تعمل على الأرض، وهذا يكفي لعشرين أو ثلاثين عاماً قادمة، فما الذي يمكن أن تستفيده الحكومة من السيطرة على المخابرات العامة أو الجيش؟ هل يمكن أن يفعل ذلك شيئاً، فالأصل في الأشياء أن تكون الأمور مناطقة بالقانون والتقاليد وتقدير الدولة لفكرة الضرورات.
ثمة أقصوصة ذات طابع سياسي، يمكن أن تكون مفيدة في هذا السياق، هي حدثت وربما لم تحدث، ولكنها كاشفة لطبيعة الوضع الذي نعايشه، حيث يقال، أن مرشحين تنافسا على مقعد نيابي في أحد الدوائر، فكان أحدهم يعد بتحرير فلسطين والآخر يتواضع ويتحدث عن توصيل الصرف الصحي، وذهبت الأصوات إلى تحرير فلسطين، ولم تتحرر كما نعرف، الأمر الذي دفع المرشح الخاسر لمعايرة أبناء دائرته، قائلاً أنهم لم يحرروا فلسطين ولم يحصلوا على الصرف الصحي.
أنا مهتم، ومثلي كثيرون، بأن نواجه مشكلة البطالة وأن نجد رجالاً يمكنهم استقطاب مستثمرين عالميين في مجالات الزراعة والصناعة والسياحة، رجال لا ترتجف أصابعهم مع توقيع الأوراق الضرورية، ولا ينتظرون مقابلاً من تحت الطاولة، ولا أريد رجالاً تنحصر همومهم في الحديث عن الشريعة المستهدفة كما خرج أحد السياسييين ليتحدث عن تخوفه من تزويج المرأة لأربعة رجال، مع أن الاتفاقية التي يتخوف منها لا تفترض أصلاً أن يتزوج الرجل نفسه بأكثر من امرأة.
نريد الرجل المناسب في المكان المناسب، ونريد مؤسسات تستطيع أن توظف ذلك بصورة ايجابية، فهل نطلب المستحيل؟ ألا يعني حصول الملك على الحق في تعيين بعض المواقع أن بقية المواقع ستكون خاضعة بالكامل لحكومة منتخبة، ألا يكفي أن ينشغلوا في مواجهة همومنا الاقتصادية والمعيشية.
ألا يمكن أن نتطلع لما يحدث في تونس والسودان لبعض الوقت، أن نتأمل في الدروس التي أنتجتها التجارب العربية والفشل الذريع في إحداث الإصلاح الديمقراطي والانتكاس السريع والمؤسف، وقبل ذلك، أليس علينا أن نعترف بأننا لا نمتلك رفاهية المغامرات الكبيرة؟ نحن في مواجهة مفتوحة ووجودية منذ تأسيس المملكة وإلى اليوم، فهل نبدأ مع حكومة تريد أن تستعيد الأندلس؟ أو حكومة تريد تأجير البلاد للشركات عابرة القوميات؟
ربما كانت كلمة الولاية العامة واحدة من أكثر التعبيرات شيوعاً بين المتعاطين في الشأن السياسي الأردني، وهي الورقة الذهبية التي يمتلكها أي رئيس حكومة، فعندما يريد شيئاً ويسعى إلى تحقيقه يركز على الولاية العامة، وفي الحالة المعاكسة، يبدأ في الحديث عن افتقاده للولاية، وبحيث يوحي الأمر أن ثمة حكومة ظل تتواجد في الأردن، وبالفعل، وعلينا أن نعترف أن شيئاً قريباً من ذلك هو ما يحدث.
يوجد نظام ملكي خاض بالأردن مراحل عاصفة ومتفجرة في الستينيات والسبعينيات، وتحمل أعباء أبوية تجاه الأردنيين، وعايش تحولات كبيرة في المملكة بدأت منذ سنة 1990، يوم انقسم العرب إلى (عربين)، وشهدت الأردن بعدها تفاعلات الحداثة، وأدرك النظام الملكي قبل غيره أن جيلاً من السياسيين أدى دوره وأنه لا يمكن أن يقود المرحلة المقبلة، فكان أمامه جيل جديد يتشكل في أوساط النخبة الأردنية، الاقتصادية والمالية، ولأن الأحزاب كانت معطلة عملياً حتى بداية التسعينيات، وعاودت العمل بطريقة مترنحة بعد ذلك، فإن القدرة على بناء نخبة جديدة كان أمراً مستبعداً.
تحدث الملك عن الإصلاح السياسي في مرحلة مبكرة من عهده، وقدم أوراقاً نقاشيةً ارتأى بعض الأكاديميين والمختصين في الشأن السياسي أنها كافية لتطرح تفاصيل الإصلاح السياسي، ومع ذلك، لم يكن ممكناً أن تطرح بنفس الطريقة التي كتبها الملك، ببساطة، توقع الملك، أن يكون ثمة نقاش حول الأوراق الملكية، وكنت كتبت أن الملك يريد من يناقش الأوراق وطرحت فكرة الكتلة التفاوضية في مقالات عدة، وكنت أعلم أن هذه الكتلة لن تتشكل، لأن الفاعلين السياسيين ليسوا مقتنعين بفكرة الإصلاح أصلاً، فهم تربوا ونشأوا وترتبط مصالحهم بالحكومة في وضعها الراهن، وفي معارضتها كما هي، وخروجهم من مواقعهم سيمثل تفريطاً في مكتسباتهم.
كنت محبطاً من بعض نتائج مخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، ولأعترف بأنني حملت العديد من الانتقادات تجاهها، ومع ذلك تعاملت بإيجابية مع مجريات أعمالها ونتائجها وذلك لأننا لا يمكن أن نتحمل تكلفة تأجيل وتسويف الإصلاح السياسي، ولأن الإصلاح وحده هو الذي يستطيع أن يبني نخبة وطنية جديدة، وهذه النخبة الواقعية والمسؤولة التي لا تبحث عن أماكن للاختباء وراء الشعارات أو الأناشيد، ولا تعتبر التخوين أو التكفير ضمن ترسانة أدواتها واستراتيجياتها، وحدها تستطيع أن تقود المرحلة إلى إنجاح الإصلاح والانتقال إلى مرحلة أخرى.
الإصلاح في الأردن ما زال يتوجه إلى الخروج من الماضي ومشكلاته وأزماته، وتأسيسه يمكن من الانتقال إلى إصلاح يتناسب مع المستقبل، أما إفشاله من خلال العدمية والتذاكي والحديث عن مؤامرات والتفتيش في النوايا فهو ما تريده النخب المستقرة في مواقعها، وهي نخب تمتلك البدائل المفتوحة في معظمها، بدائل لا تتوفر لمعظم أبنائنا في المستقبل.