من توفيق الله لي انني درست الأدب العربي في الجامعة الاردنية التي التحقت بها عام ١٩٦٧م اي بعد هزيمة حزيران مباشرة.
كانت السماء ملبدة بغيوم تلك الهزيمة المرة. والنفوس تفيض شوقا الى محو آثار العدوان.
كنت راغبا في دراسة الصحافة لكن ظروف والدي المادية حينها لم تكن تسمح لي بالدراسة خارج المملكة ولم يكن في الجامعة الاردنية الوحيدة آنذاك تخصص الإعلام والصحافة .
حين قدمت طلبي الى المسجل العام كان معدلي يسمح لي بالدخول إلى كلية التجارة والاقتصاد. فقبلت فيها.
لكني لم اكن راغبا في هذا التخصص الذي رايته ثقيلا..حينها.
كنت مسكونا بالشعر والأدب وقصائد امرئ القيس وشعر المتنبي وطرديات عمر بن أبي ربيعة الغزلية، ورثائيات الخنساء وفروسية ابن شداد وطعم الحنظل.
وعلى مضض ،دخلت المحاضرة الثانية للأستاذ الدكتور رشيد الدقر " وزير الاقتصاد والمالية السوري السابق" في عهد الانفصال عن الوحدة مع مصر" كان رجل اقتصاد من طراز رفيع..واخذ يشرح لنا ماهو الاقتصاد وانواعه الكلي والجزئي وعرج على صفات رجل الاقتصاد ومنها ان يكون فظا غليظ القلب صداعا..
ذهني المشبع بالشعر والأدب المتعلق بالمتنبي
وابي تمام والبحتري لم يتلق التعريف بارتياح..قلت في نفسي كيف لي أن اكون رجل اقتصاد إذن..!
ازدحمت في الذاكرة صور كثيرة ..رددت الآية الكريمة(ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك..)
من القلب رفضت تعريف دكتورنا..رفعت يدي اطلب الكلام..
كان الدكتور مسترسلا فلم ينتبه إلي..قاطعته بإصرار..اذن لي على مضض، قلت كيف تكون هذه صفة رجل الاقتصاد..!
اجابني باقتضاب.. فذكرته بالآية الكريمة ، فابتسم ،ثم قال: تلك مسالة دعوة..ولم يفصح اكثر..
ظل السؤال يحيرني..انتهت المحاضرة ،فسارعت الى مكتب الدكتور لأواصل الاحتجاج على التعريف المذكور.
كان ارحب ، واكثر تقبلا ومازحني قائلا ان الحزم مطلوب في كل شيء..لم اتقبل ذلك وقلت بحزم وهل يمكنني أن انتقل الى كلية الآداب لعلي ادرس مادة اخرى. ؟
لم يجبني ولكنه التقط الفكرة بسرعة ،
وسالني إن كنت محبا للشعر والأدب ، قلت له نعم بكل تاكيد..فاخذ الهاتف وطلب رقما ما..ودار حوار بينه وبين الطرف الآخر ساله: عندي طالب ادركته حرفة الأدب .ويريد ان ينتقل الى كلية الآداب..ضحكا معا.
تطلع الي وقال..غدا تذهب إلى عميد الآداب الأستاذ الدكتور محمود السمرة. قل له حكايتك وطلبك..
راقت لي الفكرة كثيرا..
أعطى اسمي للدكتور السمرة..وقال له اوصيك به خيرا.
قضيت ثلاثة ايام بعدها وانا اتردد على مكتب عميد الآداب اطلب مقابلته والسكرتيرة تصدني بحجة انشغالاته الكثيرة :مش فاضي .
حين اشتدت حيرتي واتعبني الإنتظار قررت أن اقتحم مكتبه دون إذن السكرتيرة..وارتفع صوتي غضبا..وكانه سمع ذلك .فإذا هو يخرج
من غرفته ليستوضح الأمر : (ايش فيه يا نهله؟)
حكت له نهلة انني طالب اريد مقابلته وانها منعتني لانشغاله.
قال لي ما اسمك..قلت له اسمي وسبب طلبي مقابلته وذكرته بالدكتور الدقر..
ابتسم قليلا..وقال:
ادخل يا ابني،
في الداخل انفرجت اساريري قليلا ،عندما رأيته مبتسما ،،ودق الجرس ليطلب لي الشاي..
وبعد أن اوضحت له سبب طلبي اخذ يضحك. وقال: اهلا بك في كلية الآداب .وقسم اللغة العربية..
كتب لي ورقة موجهة إلى المسجل العام غازي المفتي بالموافقة على نقلي من كلية التجارة والاقتصاد إلى الآداب.
وهكذا كان.
ورجعت إلى سربي، ابحث عن لبيد بن أبي ربيعة وافتش في ديوان زهير بن أبي سلمى وأعود الى قس بن ساعدة الأيادي واردد مع الشاعر الآخر:
(نشات على هوى الفصحى صغيرا
ومع شعرائها خضت العبابا).