لماذا كان الموتُ سيء السمعة؟ من الذي اختبرَه وعاد ليؤكدَ لنا أنه بَشِع؟ كل ما نعرفُه عنه مجردُ خيالٍ وافتراءات افتراها أبناءُ من تسمي نفسَها حياة، هذه التي تتجملُ بكل رداءٍ كاذب، التي تمارسُ علينا كل أشكالِ الموت، رويدا رويدا، وتقتلُ فينا كل المعاني، وتسرقُ منا ذاكرةَ الزمان والمكان. لم يخبرْنا أحدٌ عنها، بل رأيناها بأم أعيننا وهي تُميتُ دواخلَنا، وتُمعِنُ في إيذائنا، حتى يصلُ أحدُنا إلى مرحلةِ اللاشعور؛ يصبحُ قلبُه صخرا ليقذف به يدَ الحياة التي تعبثُ بكل ما صدَّقتْ أرواحُنا يوما أنه جميل.
"لبسنا ثوبَ العيش لم نُستَشَر"، كنا صدفًا شاءَ لها القدرُ أن تكون، وولدنا نصرُخ. ربما كان صراخُنا هو لحظةَ الوعي الوحيدة في هذه الحياة، ربما تراءتْ لنا الحقيقةُ كشريطٍ مرَّ من أمامِ أعينِنا فجزعنا وبكينا خوفا. ترى هل رأى كلٌ منا ما يخصه فقط، أم رأينا كل أهوالِ الحياة؟ رأينا الحروبَ والقتلَ والدمار، حدقنا في عيني الظلم ثم انكسرنا أمامَه، رأينا خيامَ اللاجئين وصقيعَ الشتاء الذي يحرقُ أطرافَهم، سمعنا كلّ الأكاذيب، وشهدنا على بيعِ الأوطان! ترى هل أخبرنا ذلك الشريطُ عن سماسرةِ الموت وسُرّاقِ الحياة؟ هل مرت من أمامِ أعيننا أكذوبةَ حقوقِ الإنسان؟ ربما لوحتْ لنا الحياةُ بكل ذلك ومنذُ اللحظةِ الأولى لتسخرَ منا ولتمارس علينا لعبةَ الموت باسم الحياة.
ربما كان الموتُ الذي يتحدثون عنه بريءٌ من كل ما يقولون، فكلُ الذين لامَسوهُ للحظاتٍ ثم أفاقوا تحدثوا عن نفقٍ مضيء يجذبُهم إليه، وهدوءٍ لم يعرفوا مثيلا له، جميعُهم تكلموا بذاتِ الطريقة، وصفوه كحلمٍ يطيرُ بهم إلى عالمٍ أجمل. أما موتُ الآخرين الذين شهدنا نحن عليه، فهو ربما كان خلاصُهم ونهايةُ آلامِهم، على الأقل، رأينا الكثيرين منهم مبتسمينَ له ومتصالحينَ معه.
ربما تعمدتْ الحياةُ الإساءةَ للموت حتى تُبقينا في دائرتِها، لتلهوَ بكلٍ منا قليلا وتتقاذفه كيفما تشاء، ولتبقيَ خصمها الموت في غياهبِ المجهول، تحجب عنا حقيقته. هو لا يزورنا إلا إذا سلمتنا له الحياة بنفسها، وألقتْ بنا إليه، ربما هو يتلقفُنا منها، ربما هو أكثر رحمة، ربما ينتظرُنا ليخلصَنا منها لا ليعذبنا، ربما هو جميل، ربما هو نفقٌ أبيضٌ فعلا، أو فضي، ربما ذهبيٌ أو ملونٌ بكلِ الألوان، ربما هو رحبٌ كبيرٌ يتسعُ لأرواحِنا المتعبة. بالنسبة لي، الموتُ هو انعتاقُ الروحِ من قيدِ الجسد. أنا لا أخشى الموت، بل أخشى الحياة!