في عام ١٩٩٢ كان البرد قارصا والشتاء غزيرا وقد تصادف رمضان مع مواسم البرد والشتاء.. في تلك الايام كانت مساحات الاحلام ارحب وكان الاصدقاء يحرصون على التواصل اكثر فالجميع مطمئن ان البلاد بخير وتسير نحو الافضل فقد خرجنا من ازمة الخليج بكثير من النشوة والكبرياء وقبل العالم بحقنا في الاختلاف والتقرير وكان الشعب والقيادة على قلب واحد فلو قالت القيادة ان الشمس ستأتي اليوم من الغرب لما اعترض الا القليل القليل.. ولا اظن ان القيادة خذلت الشعب يوما بل تغذى الناس على محتوى خصب صادق واقعي وقريب من قلوب وعقول وارواح الناس.

في ذلك العام كنت ضابط شرطة برتبة متوسطة وكان لدي من الطاقة ما يمكني من أن اجوب ارجاء الاردن في نفس اليوم ولا اتذمر... في عصر يوم رمضاني والناس يستعدون للافطار اصطحبت صديق لي في جولة عمانية لتسلية صيامنا والبحث عن مستلزمات الافطار التي يتشبث البعض في الحفاظ على عادة شرائها من نفس المتجر والمحل الذي اعتاد عليه منذ عشرات السنين..

كان صديقنا هذا معتاد على شراء خبز الطابون من احد مخابز صويلح وقد صعد معنا في المقعد الخلفي قريب له عرف بشدة حبه لصاحبنا ورغبته في تحقيق كل ما يكلفه به دون ململة او تخاذل لقد كان صدر ذلك الشاب يفيض بالحماس وترى في عيونه نهم لالتقاط الايماءات قبل الاحرف والمقاصد قبل الكلمات..

كان صاحبنا واقرباءه قد عكفوا على تأسيس رابطة لاسرتهم الممتدة ضمت بين صفوفها عائلة اخرى قريبة. وقد اسند انذاك للشاب الطموح مهمة امين الصندوق والذي يعتبر دورا بارزا في ضوء تعدد اللجان والمجالس التي لم تترك فاذا الا ومنحته مسمى من المسميات التي جرى ابتكار بعضها وتفعيل بعضها الاخر..

على الطريق المكتظ بمئات السيارات المتجهة نحو الشمال والبلقاء وبعد تجاوزنا لحدود الجبيهة باتجاه صويلح التفت صاحبي الجالس بجانبي الي المقعد الخلفي ووجه سؤالا استنكاريا لامين صندوق الرابطة يوحي بانه عجز عن تحصيل رسوم الاشتراك من اشخاص ذكرهم بعينهم.

بادب وحماس وفطنة رد عليه الامين قائلا "فشروا... انا في السياسة ما بعرف ابوي كله دفع يا معلم"..

لا تزال كلمات الشاب الذي اصبح قياديا محترما وفعالا ترن في اذاني كلما تأملت المشاهد التي تدور حولي في القرية..