في الوقت الذي نجح الشعبويون نسبيا بتعزيز اصوات التشكيك وبث السواد والسلبية، ونشر اجواء من الاحباط العام والشعور باللايقين، مدعومين بظروف اقتصادية قاسية وضاغطة، نجحنا نحن من نعارضهم بجعل الشعبوية مثلبة وتهمة، ثيمة تعيب صاحبها وتوجبه التصويب. هذا انجاز رغم تواضعه، فقد وصلنا لمرحلة حاول البعض تسويق الشعبوية على انها اصل السياسة، وسلوك مشروع لتحقيق الاهداف، على طريقة الغاية تبرر الوسيلة حتى لو ادى ذلك لأذية الوطن. الشعبوية امر بغيض مهلك اطاح بشعوب ودول، ونحن في الاردن اشد من عانينا منه على مر تاريخنا، لكننا وقفنا صامدين مدافعين عن القرار القويم الموضوعي، الذي يعلي مصلحة الوطن بصرف النظر عن الشعبويات المصاحبة له. قدمنا منطق الحقائق والارقام والبيانات لاتخاذ القرار، بحسابات ربح وخسارة وطنية، ولم نرضخ للتحريف ولي عنق الحقائق، وتقديم أنصاف المعلومات، لكي ندغدغ مشاعر الجماهير ونكسب تصفيقها، على حساب اتخاذ القرار الذي يعلي المصلحة الوطنية.
نعاني وطنيا من الشعبوية، التي تجتاح بعضا من منابرنا ونخبنا، ونعاني من انحسار الجهد الرسمي في مواجهتها، ما زاد من علو صوتها، وتمددها في مساحات لا تجد فيها اية مواجهة. لقد وصلنا في الوطن الاردني ان بات جلب 200 مليون متر مكعب من الماء، لثاني افقر بلد مائيا بالعالم، مثلبة توجب التراجع والاعتذار، واختباء المسؤولين وخوفهم، واصبح تعديل دستوري ينشىء مجلس امن قومي، يهيء لحكومات حزبية، عبثا بالدستور وتعديا عليه، وغدا مصطلح الهوية الجامعة خطوة نحو التجنيس والتوطين، والنيل من هوية الوطن الاردني العميقة التاريخية التعددية، وبات اضافة كلمة اردنيات لعنوان فصل بالدستور، مساسا بقيم الاسرة والدين وقواعد الميراث والقوامة والطلاق! هذه بعض من ارهاصات وتجليات الشعبوية لدينا، ولكم ان تتخيلوا مدى الحيرة التي ستنتاب كثيرين وهم يحاولون تفكيك هذا المشهد، لانه يخضع للشعبوية اللامستندة للحقائق، وليس لبناء الافكار العقلاني الموضوعي القويم.
حسبنا الله ونعم الوكيل على هذا المنزلق الشعبوي الذي وصلنا إليه، من ممارسة عملية يومية لتضليل الناس، وبث انصاف الحقائق او تحريفها، من اجل مكسب سياسي آني صغير. هذا سرطان للمجتمعات، وتلك التي نهضت وتقدمت، كانت دوما تقاتل وتعلي من قيمة الاستناد للحقائق بموضوعية في تقديم المحاججات واتخاذ القرارات، والمجتمعات التي فعلت عكس ذلك، زالت واضمحلت، ولنا في الشرق الاوسط عديد الامثلة عليها، وقد كان الاردن ايقونة النجاح والصمود والتقدم لانه لم يسمح للشعبويين من تسيد المشهد، حتى لو عنى ذلك ايقافهم بقوة القانون.
يحتاج الاردن حربا رسمية ونخبوية ضد ظاهرة الشعبوية، فافضل ما يمكن ان نفعله في العام 2022 تدشين حرب لا هوادة فيها ضد الشعبوية والشعبويين. هذا لا يعني البتة مصادرة حق اي كان في النقد ومحاكاة السياسات على النحو الذي يراه مناسبا وضمن حدود القانون، فهذا حق مشروع بل ضرورة وطنية، وانما المطلوب ايقاف اصوات التزييف والتحريف واللاعقلانية الهدامة عند حدودها، فتلك تنهش المجتمع وتسعى لاضعاف قدرته على البناء والتقدم.
(الغد)