العالم العربي بشتى أقطاره يمرّ في عملية انتقال وتحوّل، بعضها ناتج عن عمل مقصود ومرتب، والبعض الآخر كأنه صخرة متدحرجة تتسارع من سفح جبل نحو وادٍ، ولا يدري الناظر إليها أين ستستقر، ولا حجم التفتيت والحَفْر الذي ستحدثه.
فدول الخليج العربي تمر في مرحلة إصلاح بخطى مختلفة متفاوتة. ولكن التركيز في هذا الإصلاح عليه مسحة سياسية، ولكنه في جوهره ثقافي واقتصادي. فالكل يَسْعى للبحث عن هوية تجمع بيْن الأصالة والحداثة، وإن بدا الأمر من طوالعِهِ أنه يميل إلى الاغتراب. ولكن ما نراه من مظاهر التحيّز للثقافة الغربية ليس إلا ظاهرة شبابية، سيهجرها أصحابها متى ما أدركوا أن التخلي عن هويتهم الثقافية مُكلف جداً.
وكذلك، فإن دول الخليج في عمومها قد نجحت في تنويع اقتصاداتها بعيداً عن النفط داخل الدول وخارجها حيث يوجد ملاذ آمن للاستثمارات الخارجية.
وقد نجحت دولة قطر ودولة الإمارات في هذا المسعى بشكل واضح. أما سلطنة عُمان فلها أسلوبها الخاص في التحول نحو التنويع الاقتصادي.
والمملكة العربية السعودية ترى أنها دولة ذات ثروة ومساحة وموارد تؤهلها لأن تكون حاضنة لمشروعات كبرى طموحة تمتد عبر الحدود إلى جيرانها، وتريد تأكيد مركزها الإقليمي والدولي، وتظهر مزيداً من الاستقلالية في هذا الإطار.
أمَّا مملكة البحرين، فقد قسَّمت جهودها بين أمرين، الأول هو رغبتها في تعزيز دورها السنغافوري في منطقة الخليج العربي، ولتصبح مركزاً مالياً تنافس فيه إمارة دبي، والثاني هو اقتناص الفرص الممكنة من الثورة الاستثمارية الكبيرة التي تجري في المملكة العربية السعودية بحكم الجوار، وسهولة التواصل بينهما.
والحالة الخاصة في هذا الأمر هي دولة الكويت، والتي بدأت تدريجياً تخرج من صدمة الاحتلال عام 1990/1991 وتستعيد لمعانها وبريقها عندما تبنت مشروعات في دول خليجية قبيل اكتشاف النفط في بعضها، وكذلك عندما كانت تضج بالحياة سابقة غيرها في مجال الاستثمار، والمضاربات المالية، ونشر الثقافة والمسرح، والموسيقى، وتزهو بالمرافق السياحية والخدمية المتميزة.
وقد عانت دولة الكويت من توتر العلاقات أحياناً بين الحكومة ومجلس النواب فيها. ولكنها ما تزال مصممة على الاستمرار في النهج رغم وعورته.
وهنالك دول عربية ما تزال لم تخرج من أحداث الربيع العربي، ولا من انتكاسة تلك الظاهرة، وما تزال تبحث عن طريق لتشكيل حكومة أو إجراء انتخابات. ومن هذه الدول الآن السودان، وليبيا، واليمن، والصومال مؤخراً. وهذه الدول ما تزال تشهد ساحاتها حروباً (اليمن) أو مظاهرات (السودان)، أو خلافات حادة بين أقطاب الحركات المختلفة (ليبيا)، وهذه الدول ليس فيها استقرار، وتبحث عن إعادة لملمة نفسها، حتى تتمكن من تركيز العمل المؤسسي وتعود لبناء ذاتها.
وهذه الدول العربية الأربع ليست قليلة الموارد، ولكنها جميعاً تعاني من الفقر، واللجوء، والنقص الفادح في الخدمات والطاقة والمياه، ويعاني الأطفال فيها أشد المعاناة من الجوع والهزال وفوات فرص التعليم، مما جعلها تعاني من وجود «جيل ضائع» ستحتاج إلى سنين طويلة قبل ان تستطيع التعويض عنه.
وهنالك دول عربية فيها حكومة، ولكنها حكومة مؤقتة تنتظر أن تتشكل بعدما يتفق الفرقاء على ذلك، وإن بدا أن برزخاً يفصل بينهم. فقبل الوصول إلى ذلك الاتفاق مثل ليبيا ونحن إن صنفناها مع الدول أعلاه، ولكنني اشير هنا إلى كل من العراق ولبنان وحكومة الميقاتي في لبنان مستقرة ولكنها غير ثابتة، خاصة إذا اجريت الانتخابات التشريعية العام القادم.
أمَّا العراق الذي أقرت المحكمة العليا فيه مؤخراً نتائج الانتخابات التشريعية ونزاهتها، فسيبقى يعاني بعض الوقت من الاصطراع الداخلي، خاصة بين فصائل الشيعة، إلى أن تصل إلى توافق حول رئيس الوزراء القادم، وتشكيلة الوزارة التي سوف يترأسها. والعنصر المعرقل الأساسي أمام تشكيل الحكومة سيكون عنوانها التنظيمات المسلحة غير الحكومية مثل الحشد الشعبي (الميليشيات) ومنظمة بدر، وان كان العدد الفعلي للميليشيات من مختلف الجهات يبلغ حوالي (32) حركة.
ونرى نفس المعضلة في لبنان. ويبدو أن الاستهداف سيكون موجهاً إلى جناح حزب الله العسكري. وهذه قضية معقدة فعلاً، لأن لهذه الحركة امتداداً عميقاً داخل لبنان، وتسندها جهات قوية في سوريا، ولها وجود في اليمن، وفي أماكن أخرى. وحتى لو نجحت مفاوضات كبح البرنامج النووي الايراني من خلال التفاوض الجاري في فيينا، فإن من الصعب أن تحل كتائب حزب الله نفسها. ولا أحد يدري تماماً إلى ماذا ستؤول إليه الأمور هنالك.
وفي الجزائر، ما يزال الإصلاح السياسي – كما هو الحال في السودان – متأثراً بدور القوات المسلحة في الحياة السياسية بين الرافض لها والواقف معها. ويشهد البلدان مظاهرات تشل الحياة الاقتصادية في السودان، وتعطل الانتعاش الاقتصادي في الجزائر. ومن هنا، فإن الانتقال من الحكم العسكري إلى الحكم المدني سيبقى مرهوناً بالقدرة على الوصول إلى حل مرحلي، وحتى يصل كل بلد منهما إلى التوافق المطلوب ليعود العسكر إلى خنادقهم ويرجع المدنيون إلى مكاتبهم.
أما البلدان اللافتان للنظر فهما مصر والمغرب. وقد توصل البلدان إلى تفاهم حول الصيغة السياسية فيهما، رغم بعض الانتقادات والاعتراضات هُنا أو هنالك.
وقد أمضيت خلال الفترة الماضية ساعات أرقب اجتماعات بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي وهو يُدشن مشاريع مختلفة كان آخرها المشروعات السكنية والتعليمية والاجتماعية ومشروعات الطاقة في الصعيد. وقبلها حضرت لقاء شرح فيه المعنيون كيف استبدلت مناطق السكن العشوائي في القاهرة ومدن أخرى بتجمعات سكنية مكتملة المرافق، وما صاحب ذلك من تأهيل اجتماعي ومهني لسكانها، وكيف أصرت الدولة بالمقابل على إزالة كل المخالفات وتغريم مرتكبيها ما كَبَّدوه للاقتصاد المصري من خسائر.
وأقولها بصراحة انني شعرت بالغيرة. فمصر التي يصل عدد سكانها أكثر من مائة مليون نسمة، قد قطعت شوطاً بعيداً في إعادة تأهيل الحياة لكثير من المصريين. ولذلك حققت مصر نمواً هذا العام يفوق الـ(3ر7%)
وفي المغرب هنالك حركة استثمار وبناء يشيد بها الكثير من المراقبين، وبعدما تراجع الاقتصاد المغربي عام 2020 بنسبة (2ر3%)، فإنه سوف ينمو عام 2021 بنسبة (3ر6%).
إذن فالتحول الذي يشهده البلدان هو تحول اقتصادي اجتماعي، جعلته الادارة المصرية والادارة المغربية هدفاً لهما ونجحا فيه ما سيجعلهما أكثر تأهيلاً لاجتذاب الاستثمار والسياحة.
ولا شك ان ما شاهدته على شاشات التلفزة المصرية من شروحات الوزراء والمسؤولين ما يثلج الصدر ويطمئن النفس أن في مصر كفاءات عادت لتتصدر الواجهة، وتعمل بجد وكذلك الحال في المملكة المغربية.
ولن أتحدث عما يعانيه أهلنا في فلسطين من الاحتلال وتجاوزاته وعدم احترامه لحقوق الإنسان عامة والفلسطيني خاصة، ولكن الناس هنالك يبذلون أقصى ما لديهم، خاصة أهلنا في قطاع غزَّة.
أما نحن في الأردن، فلنا وضع فريد. لقد اكتشفنا بعد مائة سنة من النجاح في العيش بين الصعاب والأحداث أننا لم نعد نتفق فيما بيننا على الجوامع المشتركة بيننا. وصار كل مصطلح أو تعبير يدعو الى تجميعنا على قلب واحد وصف واحد يكون سبباً في تباين أفكارنا وتباعد رؤانا. وأتساءل بيني وبين نفسي عن السبب. فملك الأردن عبدالله الثاني لم يتردد في المبادرة إلى الإصلاح. ولكننا صار كل واحد يخاف من التحول الجديد وكيف سيؤثر عليه في ظل ظروف غير واضحة المعالم لكثير من الناس.
ولذلك، لا عجب أن الكل يسعى بطريقته إلى احداث التغيير شريطة أن يأتي هذا التغيير على مقاسه، أو مقاس بلدته أو عشيرته أو منطقته. والكل يسعى لكي يستغل هشاشة الوضع المالي للقطاع العام لكي يأخذ منه أقصى ما يستطيع، وكأنه داخل إلى عالم جديد غريب عليه لا يعرف فيه أين سيكون موضعه. فالكل ضعيف ويستقوي، والكل قوي ويرجو، وبركة الاجماع والتوافق والتكافل تحولت إلى مزاجية جعلت كثيراً من العاقلين يتساءلون: هل نبقى مصممين على التغيير والتحول إلى مجتمع ديمقراطي سياسياً، فعّال اقتصادياً، ومتحرك اجتماعياً، وحامل لهوية ثقافية مرجعية مشتركة؟ هل تستحق كل هذه الأهداف أن نختلف حولها وتعلو اصواتنا على بعضنا البعض في حوار أقرب إلى حوار الطرشان!.. الكل يتكلم ولا أحد يسمع، والكل يشكو ولا أحد يحمد أو يشكر، والذين أصابهم طَلٌ صامتون حتى لا يُطالَبوا بأي شيء.
علينا أن ندرك تماماً أنه بالرغم من غموض المرحلة التي سننتقل اليها، الا اننا ذاهبون اليها ليس بحكم الضغط والشد الخارجي، ولكن بحكم تطور الحياة في بلدنا. لقد نجونا من آفات كل ما اصاب الوطن العربي، فنحن نعرف هويتنا الثقافية وقد حققنا تشكيلها من الأصالة والحداثة بدون جلبة ولا غلبة، ونجحنا في وضع عملية الاصلاح بدون مظاهرات او ميليشيات او تشتيت للسلطة. ورغم كل التحديات الاقتصادية، فقد نجحنا في تحقيق معدل نمو خجول خلال العام الماضي سيبلغ (2%) مقابل تراجع (2%) سالباً في عام 2020.
آن الأوان أن نناقش أمورنا بهدوء وروية. والصياح والعربدة لن تفيدنا شيئاً. وعلى الجميع أن يدرك أن لا شيء في هذا العالم يتحقق بلا ثمن. وأن أي تحول سينطوي على ربح وخسارة. ولكن التحدي الديمقراطي الذي يجب ان نصل إليه هو أن من يخسر لا يجوز أن يبقى خاسراً، والرابح لا يتوقع أن يبقى في خانة الرابحين، بل ان الأغلبية الديمقراطية هي مرجعيتنا في تغيير صورة التوزيع بحيث يربح الخاسرون سابقاً. ويتنازل الرابحون عن بعض ما ربحوه حتى يدور الدولاب، ويبقى الأمل لدى الجميع أن بلدهم وملاذهم وموئلهم وحماهم هي الرابح في نهاية المطاف.
فهل سنجتاز عتبة التحول الديمقراطي الاقتصادي الاجتماعي بالأسلوب الأردني العاقل المحاور؟ أم أن تلك الفورات العاطفية ليست مقصودة، بل هي تعبير غير مقصود عن قلق الجميع من القادم الذي لا نعرف صورته بشكلها النهائي.
هذا زمان الوطن، والذين يخدمونه هم أهله وحراسه، ومن يتقاعسون عن ذلك – وهم قلة نادرة – فإنهم جزء من المشكلة. ونحن قادرون بسعة الصدر على استيعاب غضبهم حتى نعيد لهم الطمأنينة وراحة البال.
أليس لهذه الأسباب نحن أحببنا الهاشميين وصاروا ساستنا وروادنا نحو المستقبل دائماً؟
الرأي