قدر كبير من التكهنات والتوقعات روّج في الاجواء التي صاحبت قمة شرم الشيخ الأخيرة يتعلق بمستوى سقف التوقعات والآمال الفلسطينية في المرحلة القادمة بعد أحداث غزة الأخيرة. فقد سمعنا كبير المفاوضين الفلسطينيين يمهد للقاء بالقول ان السلطة الفلسطينية تريد حلاً للقضية لانه لم يعد لديها المزيد من الوقت لتضييعه في المفاوضات الفارغة.. وسمعنا مسؤولاً آخر من السلطة يطالب القمة برفع الحصار وازالة الحواجز وتسهيل حياة الناس ومطالبة اسرائيل بالانسحاب الى خطوط ما قبل انتفاضة الاقصى.طلبات متواضعة، بل اكثر من متواضعة، بالرغم من ان احداً من اولئك الذين اطلقوها لا يجهل ان لا تخدم اكثر من غاية الاستهلاك المحلي، هم يعرفون ويفهمون ان اسرائيل لا تأبه بكل ذلك.
اذاً لماذا التواضع والحديث في الامور السطحية وفي مضاعفات الاحتلال بدلاً من المطالبة بزواله؟ الجواب بسيط، لان السلطة تطرب وتفرح بهذه اللقاءات حتى وان ظلت عديمة الفائدة، فهي وسيلة الاستمرار واخر مبرر للبقاء والوجود في غياب ان نتيجة اخرى قد تتمخض عن عملية سلام ميتة، ومسيرة تفاوضية مضى عليها 14 عاماً دون ان تجود بغير التراجع وتآكل الحقوق واضمحلال الارض.
ثمة عامل اخر.. لقد قادت مصر الجهد الذي تسارع بعد احداث غزة، او بعد "انقلاب حماس" في غزة، فمثلاً في اجتماع وزراء الخارجية العرب في اطار الجامعة العربية، ثم في هذه القمة المصغرة، قادت مصر تيار الدعم المطلق لشرعية السلطة الوطنية الفلسطينية بزعامة عباس، كما قادت ادانة "انقلاب حماس" ونقلت بعثتها الدبلوماسية من غزة الى رام الله - والمفروض ان لا تكون اية بعثة دبلوماسية لا في غزة ولا في رام الله الى ان يتحقق الاستقلال الحقيقي وترسل البعثات للمكان الموعود -القدس-.
اما اسرائيل فلم يتردد رئيس وزرائها من استغلال المأساة الفلسطينية الجديدة منذ اللحظة الاولى، كان اولمرت يشد الرحال الى واشنطن عندما هدأ غبار المعركة في غزة.. ولم يخف اولمرت عزمه على اقناع واشنطن بضرورة بقاء غزة معزولة اكثر من عزلتها القائمة، ومحاصرة اكثر من حصارها المضروب منذ اكثر من سنتين.
فذلك من وجهة نظر اسرائيل يحقق هدفين كبيرين احدهما خنق حماس وحكومتها - وان كانت حكومة وحدة وطنية بموافقة عباس- المعزولة حتى الموت، والثاني التفرد بسلطة ضعيفة وبحكومة طوارئ تعمل في ظروف تجعل منها طرفاً غير كفؤ في التعامل مع إسرائيل.
والتفرد بالسلطة "المحررة من حماس" هنا لا يعني الدخول في مفاوضات جادة بهدف التوصل لاية تسوية في غياب اية عرقلة من حماس والمنظمات "المتطرفة"، التفرد، الذي تسوق له إسرائيل، يعني فقط اغلاق ملف المفاوضات نهائياً والقائه على اعلى رف في مستودع عملية السلام، والهاء السلطة باغراءات المال والرواتب والامتيازات والسفر ولقاءات المسؤولين من تجار السلام الموهوم من خارج المنطقة وداخلها، بلا حسيب ولا رقيب ولا مجلس تشريعي ولا ديمقراطية، بعد ان جرّت التجربة الديمقراطية كل هذه العواقب الكارثية.
اليس من المخجل ان تتقلص الحقوق الفلسطينية الى مجرد معالجات لأبعد مضاعفات الاحتلال وممارساته البغيضة عن جوهر القضية.
منذ مأساة غزة والوعود تتوارد من كل حدب وصوب عن رفع الحصار ودر المال وصب الخيرات على الضفة الغربية والسلطة وحكومة الطوارئ حتى يشعر اهل الضفة بالبذخ والترف فسيحسدهم على ذلك جياع غزة حتى يثوروا على حماس.
تمخضت كل هذه الجبال الشامخة والوعود الهادرة وبالكاد ولدت فأراً. كل ما جاد به اولمرت للافراج عن 250 معتقلا فلسطينيا من فتح ممن لم تغرق ايديهم بدم يهودي، اقتراح قد يقبله مجلس الوزراء، وقد يرفضه، سأكتفي بايراد تعليق وزير الاعلام في الحكومة المعزولة على هذا الوعد الهزيل الاجوف، مصطفى البرغوثي الذي قال للبي بي سي، ان اسرائيل تعتقل 250 فلسطينياً كل شهر، وان لديها اكثر من 11 الف معتقل من دون عدالة، فما قيمة وعد واهم بالافراج عن حصيلة شهر من المعتقلين قد يكون الافراج عنهم لانتهاء مددهم او لكون اسباب اعتقالهم لا تبرر استمرارهم في الحجز اصلاً.
اما "المكرمة" العظيمة الاخرى التي جاء بها اولمرت الى شرم الشيخ فهي الافراج لعباس (بعد ان يثبت قدرته ويقدم دليله على محاربة الارهاب كما تقول هآرتس) عن اموال الضرائب الفلسطينية التي تحتجزها اسرائيل بدون اي مبرر ولا حق، والتي يجب ان يفرض على اسرائيل الافراج عنها مع فوائدها بحكم القانون بلا منة ولا تبجح ولا ابتزاز ولا مقايضة بالحقوق الفلسطينية الاساسية.
قالوا ان المبلغ الاجمالي هو(600) مليون ثم بدأ الوعد بالافراج يتقلص الى (450) مليونا، ثم الى (350) مليونا، والله يعلم الى اي مدى سينزل الرقم وقت التنفيذ ان حدث التنفيذ، اليست هي القرصنة بابشع اشكالها ان تحجز اسرائيل هذه الاموال ثم تقدمها كمكارم وتنازلات منها لمكافأة السلطة على حصار وعزل غزة؟ اليس هذا هو العار بعينه!
فلنضع جانباً كل الاسئلة، وكل علامات التعجب ونكتفي بسؤالٍ واحد: اين المبادرة العربية!
سفير الأردن السابق في الأمم المتحدة