اجندة لتطوير القطاع العام وإصلاح الإدارة الحكومية 2 /3
محي الدين توق
30-12-2021 05:49 PM
تم التطرق في المقالة السابقة لبرامج وخطط الإصلاح الإداري في المملكة منذ إنشاء ديوان الموظفين سنة 1955 وانشاء وزارة التنمية الإدارية سنة 1995 وتحولها الى وزارة لتطوير القطاع العام سنة 2006 ومن ثم الغاؤها سنة 2018.
كما تم التطرق لبعض الأسباب التي حالت دون تحقيق تلك البرامج والخطط لأهدافها في تطوير الإدارة الحكومية، مثل غياب الرؤية الشاملة للإصلاح والتركيز على الابعاد الإجرائية والتقنية للإصلاح دون الابعاد الاستراتيجية، وغياب البنية المؤسسية القادرة على إدارة التنفيذ، وضعف شعور الموظفين والمدراء بملكية البرامج والخطط، وسرعة تغيير الحكومات والوزراء مما خلق الانطباع بان البرامج والخطط هي برامج حكومية فوقية تأتي وتذهب مع الحكومات، وليست برامج دولة تشاركية ومستدامة لا تتغير بتغير الحكومات.
وسيتم التطرق في هذه المقالة الى بعض العوامل الاستراتيجية التي يمكن ان تشكل اجندة للإصلاح والعمل في السنوات القادمة للخروج من المشكلات التي تواجه الإدارة الحكومية والارتقاء بها حتى تتمكن من الاستجابة للتحديات والتطورات التي بدأت تطل برأسها قبل زمن ليس بالقصير.
بينما ستتطرق المقالة التالية الى بعض العوامل الأخرى ذات الطبيعة الإجرائية الضرورية لدعم العوامل الاستراتيجية للإصلاح.
تميزت معظم البرامج التي وضعت في العشرين سنة الأخيرة بانها برامج لتطوير وتحديث الإدارة الحكومية، وليست برامج لإصلاح القطاع العام، إذ لم تركز هذه البرامج، الا فيما ندر، على القضايا الاستراتيجية مثل حجم الحكومة، والترهل الإداري، وإعادة الهيكلة، والثقافة التنظيمية، ونزعة التركز والمركزية، والميل التنظيمي المبالغ فيه (over regulation).
وباعتقادي بانة إذا لم يتم التعامل مع هذه القضايا الجوهرية بجدية وفاعلية فان نتائج أي اصلاح اداري ستكون محدودة الأثر بأفضل الأحوال، إذ ان المشكلات التي تعاني منها الإدارة الأردنية تحتاج لإصلاح هيكلي وبنيوي عميق.
ان اول القضايا الاستراتيجية التي لابد من التعامل معها بجدية هي حجم الحكومة الكبير بكافة المعايير.
يقاس حجم الحكومة في العادة بنسبة اسهامها في الناتج المحلي الإجمالي (GDP)، أي مجمل انفاق الحكومة المباشر وغير المباشر منسوبا للناتج المحلي الاجمالي، وهو في حالة الأردن من اعلى النسب في العالم، ويعود السبب في ذلك لمجموعة عوامل مثل حجم التدخلات الحكومية، وعدد الخدمات التي تقدمها الحكومة، وعدد الدوائر والمؤسسات الحكومية، وعدد الموظفين العموميين ونسبتهم الى مجمل القوى العاملة، وعدد الوحدات التنظيمية في الهيكلية الإدارية للدولة، وعدد التشريعات الناظمة لعمل الدوائر والمؤسسات، والكلفة النسبية لتقديم الخدمات.
وتشير الدلائل الى وجود ارتباط سالب بين حجم الحكومة والنمو الاقتصادي، إذ يعتبر ان زيادة حجم الحكومة دالة على ضعف النمو الاقتصادي.
فعلى سبيل المثال يبلغ عدد الدوائر والوحدات الحكومية حوالي 125 دائرة ووحدة، ما عدى الشركات التي تساهم بها الحكومة.
كما يقدر ان الحكومة الأردنية تقدم ما يزيد عن 500 خدمة، بشكل مباشر او غير مباشر.
وكمثل اخر قدر وزير التخطيط قبل حوالي أسبوعين ان عدد التشريعات التنظيمية ذات العلاقة بالاستثمار بشكل مباشر او غير مباشر بحوالي 1000 تشريع.
وبالتالي فإن السؤال الذي يطرح نفسه "هل دولة صغيرة بحجم الأردن يحتاج هذا العدد الكبير من الوزارات والدوائر والمؤسسات الحكومية وما يتبعها من خدمات ومستلزمات لإدامتها؟" ويصبح السؤال أكثر الحاحا إذا ما اخذنا بالاعتبار نوعية الخدمات التي يتلاقاها المواطنون.
اما فيما يتعلق بقضية هيكلية البنية التنظيمية للدولة فهي على علاقة مباشرة كذلك بحجم الحكومة، ولذا ارتبطت إعادة الهيكلة تاريخيا بتصغير حجم الحكومة وزيادة فاعليتها وتحسين خدماتها. ا
ن المتأمل لجهود التطوير الإداري في السنوات الماضية يمكن ان يستنتج بان جهود ومحاولات إعادة الهيكلة كانت خجولة ومترددة، ولم تكن بالمستوى المطلوب، في افضل الأحوال.
فالمقاربتان الرسميتان اللتان جرتا لإعادة الهيكلة لم يكتب لهما النجاح، فمحاولة إعادة الهيكلة التي جرت في عامي 2011-2012 لم تنجح الا بشكل محدود في ترشيق الدوائر الحكومية وبكلفة اكبر بكثير مما كان متوقعا، وقد يعود السبب في ذلك لتبعات ما سمي " بالربيع العربي".
اما المقاربة الثانية التي تم تضمينها في الخطة التنفيذية لوزارة تطوير القطاع العام للأعوام 2016-2019 فقد تم وأدها في مهدها عندما الغيت الوزارة برمتها، فتيتمت الخطة ولم تجد من يتابعها.
لقد انشأت العديد من الدوائر والمؤسسات والهياكل التنظيمية في العشرين سنة الأخيرة بحجج وذرائع مختلفة، الا ان نوعية الخدمة والإنتاجية لم يطرأ عليها تحسن يذكر، بل ان الاعتقاد السائد هو انهما تراجعا، والدليل على ذلك عديد المطالبات بالإصلاح الإداري من كافة المستويات، والشكوى المريرة المستمرة من القطاع الخاص وجمهور المنتفعين.
ناهيك على ان كلف تشغيل وإدامة هذا العدد الكبير من الدوائر والمؤسسات أصبح يشكل عبئا ماليا كبيرا على الدولة. ولذا فإن إعادة الهيكلة والتنظيم الحقيقيان والعميقان يجب ان يتصدر اجندة اصلاح القطاع العام والإصلاح الإداري المطلوب، والا فمن المتوقع ان تتفاقم مشكلات الإدارة الأردنية بدل ان تتحسن.
اما الترهل الإداري فهو كذلك مظهر اخر من مظاهر حجم الحكومة، والذي غالبا ما يتمثل بالزيادة الملحوظة في عدد الموظفين والدوائر والتنظيمات الإدارية الذي لا تبرره الإنتاجية او نوعية مخرجات عمل الحكومة.
لقد اظهرت عديد الدراسات بما لا يقبل الشك انه كلما زاد عدد الموظفين منسوبا لعدد الوظائف او التنظيمات الإدارية داخل الدائرة او المؤسسة تدنت الإنتاجية وتردت بيئة العمل وقلت فرص الموظفين للتقدم وإبراز مواهبهم الفردية.
كما دلت دراسات علم النفس التنظيمي بانة كلما زاد عدد الموظفين قل شعورهم بالمسؤولية، وزادت المظاهر السلبية في العمل، وانشغلت القيادات الإدارية في امور ثانوية مثل حل الصراعات بين الموظفين، وضبط وتائر العمل، والتعامل مع الحمولة الزائدة.
وبالعودة مرة أخرى لبرامج وخطط التطوير السابقة يمكن الاستنتاج بانها لم تول هذه القضية الاهتمام الواجب، ربما لحساسيته السياسية والاجتماعية.
وإذا استمر هذا التجاهل ولم توضع هذه القضية على اجندة الإصلاح فان الامر مرشح للتفاقم، خاصة إذا ما تم الانتقال للحكومات الحزبية فيصبح التعامل معها بفاعلية في غاية الصعوبة.
وباعتقادي انه يمكن إيجاد الحل المناسب من خلال اللجوء لعدد من الإجراءات مثل معادلة النمو الصفري (ماعدا في برامج التعليم والصحة)، وإعادة تدوير الموظفين بين الدوائر الحكومية لتحقيق درجة اعلى من التجانس بين الوظائف الفنية والإدارية، وتحويل تنفيذ بعض الخدمات للمجتمع المدني والأهلي، وتدعيم اللامركزية، وتعزيز دور الحكومات المحلية في تقديم الحكومات، ورفع إنتاجية الموظفين.
وفي هذا السياق لا مناص من زيادة النمو الاقتصادي لاستيعاب الداخلين الجدد لسوق العمل في القطاع الخاص لتخفيف الضغط على الوظائف الحكومية.
اما فيما يتعلق بالهيكلية الإدارية الداخلية للدوائر والمؤسسات والثقافة التنظيمية السائدة فيها، فلا بد من معالجتها معالجة جذرية للتخفيف من البنية التنظيمية الهرمية، وكثرة مكوناتها، ومن العدد الهائل من اللجان الإدارية التي أصبحت وسيلة لزيادة المداخيل اكثر من كونها اداة لزيادة الإنتاجية والتشاركية والفاعلية.
وينطبق نفس الشيء على عدد التشريعات الناظمة للعمل الإداري التي أصبحت، من كثرتها، تشكل قيدا على سلاسة العمل، وعلى القدرة الإبداعية للموظفين، وروح المبادرة لديهم.
ولذا أصبح من الضروري ان تعمل برامج الإصلاح الإداري على التخفيف من الميل التنظيمي الزائد عن الحد (Deregulation) بما يؤدي الى الانتقال من ثقافة إدارية قائمة على قواعد العمل الجامدة، الى ثقافة إدارية قائمة على النتائج والمخرجات.
وبنفس المقدار فان التخفيف من المركزية الزائدة وتركز الخدمات في العاصمة والحواضر الكبرى التي تميز الإدارة الأردنية، يجب ان ينتقل من حيز الشعارات التي طالما تغنينا بها الى واقع عملي وممارسة ملموسة على ارض الواقع.
ان معالجة القضايا الاستراتيجية السابقة والاشكاليات الناجمة عنها يجب ان تحظى بالاهتمام الجاد لتجديد دماء الدولة ونحن على اعتاب المئوية الثانية من عمرها.
ان وضع خطة أخرى لمعالجة الجوانب التقنية الإجرائية لن يفضي الى تحقيق الامل المنشود في إدارة اردنية قوية وفاعلة ومنتجة.
ان فعل نفس الشيء، وتكرار نفس الممارسات السابقة وتوقع نتائج مختلفة هو نوع من العبث الذي لن يقود الا الى مزيد من التراجع وتعميق الإحباط والشعور بالاسى واستمرار الشكوى.
ولذا فالحاجة ماسة الى التفكير خارج الصندوق، وتبني رؤية وفلسفة جديدة للتطوير، واتخاذ تدابير وإجراءات حازمة لوضعها حيز التنفيذ.
وفوق ذلك كله وضع ملف الإصلاح الإداري بيد جهاز حكومي قوي وقادر على التنفيذ، لا يتغير ولا يتأثر بتغير الحكومات والوزراء.
لقد جربنا في ربع القرن الماضي عديد الممارسات والنماذج وانشئنا لذلك المؤسسات، الا اننا لم نلحظ تقدما حقيقيا في الإدارة الأردنية الا في عدد محدود من الدوائر والمؤسسات، وظلت الشكوى من تراجع الإدارة الأردنية هي النمط السائد لدى الجميع. فما هو المخرج من هذا المأزق؟
تشير الممارسات الفضلى والنجاحات التي تحققت في أكثر من دولة واقليم في العالم في هذا المجال الى مجموعة من الأسس والإجراءات التي يمكن الاستفادة منها والبناء عليها ومن هذه الممارسات:
1. اشراك أكبر عدد ممكن من أصحاب المصلحة والشركاء، بما في ذلك الموظفين، والخبراء ومؤسسات البحث والتفكير في وضع الخطوط الاستراتيجية الكبرى للتطوير، وتجنب المقاربة الفوقية المبنية على "من الاعلى الى الأسفل" (Top-Down)).
2. مناقشة الخطوط الاستراتيجية الكبرى مع أكبر عدد ممكن من المهتمين وأصحاب المصلحة لتحقيق اعلى درجة ممكنة من التوافق والقبول بما في ذلك السلطة التشريعية والقطاع الخاص.
3. إقرار خطة التطوير من قبل اعلى سلطة تشريعية لكي تصبح خطة وطن وليس خطة حكومة، ولتصبح خاضعة للرقابة يشكل مستمر.
4. وضع سلطة تنفيذ الخطة بيد جهاز اداري وفني قوي وقادر، ومن الضروري ان يرتبط هذا الجهاز بأعلى سلطة تنفيذية وان لا يتغير بتغير الحكومة.
5. وضع مؤشرات أداء ومعايير واضحة ومحددة وقابلة للقياس لضمان التنفيذ الأمين والسليم والمشرف لمكونات الخطة، بما في ذلك وضع جداول زمنية معقولة للتنفيذ.
6. تعزيز دور القطاع المدني والمؤسسات الرقابية والإعلامية للرقابة على التنفيذ ومدى الالتزام بالمواعيد الزمنية.
7. قيام الجهاز التنفيذي للخطة بتقديم تقارير دورية ومنتظمة للسلطة التشريعية والجهات الرقابية والجمهور بشفافية تامة، على ان تشمل هذه التقارير المنجزات والتحديات والسبل التي تتبعها للتعامل معها.
8. المراجعة الدورية للخطة ومؤشراتها على ضوء المنجزات والتحديات وبنفس نهج اعداد الخطة.
9. إلزام كافة الأجهزة التنفيذية من وزارات ودوائر ومؤسسات بالتنفيذ الأمين والدقيق لمكونات الخطة، وان يكون ذلك أحد اهم أسس وقواعد المساءلة القانونية والإدارية والمجتمعية.
10. الاسراع في الانتقال للحكومة الالكترونية وتحسين وتطوير شبكات الاتصال والخدمات المحوسبة.
واخير ونظرا لخصوصية الحالة الأردنية، ولكون جلالة الملك هو رئيس السلطة التنفيذية بموجب الدستور، ولضمان الالتزام بتنفيذ خطة الإصلاح الاداري، والتقيد بما ورد فيها، وجعلها احد اهم أولويات الدولة، فقد يكون من الملائم ان يتعهد رئيس الوزراء امام جلالة الملك والسلطة التشريعية والشعب علنا بالالتزام بالخطة وتنفيذها بشكل امين وسليم ومشرف.
* يشار إلى أن الكاتب اول وزير لوزارة التنمية الإدارية..