يمتلك السودان كل ما يمكن تخيله من الخيرات لكنها تنعكس رفاهاً ورخاء على شعبه، بل ان العكس من ذلك هو الذي حصل فقد فارقه الاستقرار على مدى فترات غير قليلة منذ الاستقلال ومر بفترات عصيبة وانقلابات عديدة وحرب أهلية طالت لعقود أدت في النهاية الى انقسام البلد إلى سودانين أحدهما في الجنوب والآخر في الشمال ورغم ذلك بقي الشطران فقيرين ومضطربين ولم تهدأ الامور في أي منهما فأين يا ترى يكمن الخلل؟
كغيره من دول العالم الثالث خرج السودان من نير الاستعمار بنمط حكم مدني على النمط الذي رسمته القوة المستعمرة والجيش فيه اميل الى الاحتراف بعيداً عن السياسة، كانت السياسة تقتصر على مجموعة ضيقة تقود على أسس أيديولوجية دينية او حزبية والسائد في ذلك الوقت وربما الى الآن هي الإسلاميون والشيوعيون والقوميون، وكانت أول نقطة استخدام للجيش في السياسة عندما قرر رئيس الوزراء عبدالله خليل الاستعانة بالجيش عندما استشعر بالخطر من ان اجتماع السيدين عبدالرحمن المهدي و الميرغني قد يؤدي للإطاحة بحكومته، فكانت تلك اللحظة الفارقة في تاريخ السودان حيث تولى الجيش زمام القيادة في العام ١٩٥٩م وأعلن ابراهيم عبود رئيساً للبلاد توالت بعد ذلك الانقلابات والثورات تجاوزت فيها مدة حكم المكون العسكري ٥٣ عاماً تخللتها فترات من الحكم المدني الذي اختتم في كل مرة بانقلاب عسكري وهكذا دواليك، فخلال ٦٥ سنة حصلت ٣٥ محاولة انقلاب نجح منها خمس محاولات.
يبدو أن ما حرك كل تلك المحاولات هو السلطة والمال إذ أن الفائز سيقوم بمساومة تلك الغنائم مع الاطراف الدولية وفقاً لمصلحة كل طرف لكن كلا الطرفين المدني والعسكري لم يأخذا في الحسبان ما ستؤدي إليه تلك السياسة من نتائج على المجتمع السوداني الذي بقي يعاني من نفس الضائقة الاقتصادية حتى الآن، ومكونات السودان تشترك مجتمعة في هذه النتيجة فالاحزاب فشلت في تبني نهج سياسي يثمر عن نتائج اقتصادية واجتماعية ذات جدوى مما أدى الى إخفاقها في التنافس على المنفعة العامة لذلك طوعت الجيش واستخدمته لتجاوز ذلك الفشل واستخدمته كوسيلة للنصر على الخصوم والجيش ايضاً استمرأ السلطة وتكونت لدى نخبه بمستوياتها كافة قناعة بأن الحكم هو صفة ملازمة لهم وأنه حكر عليهم لذلك وجدنا أن مدة الحكم المدني كانت هي الأقل منذ استقلال السودان، والسؤال الذي يطرح نفسه هل الثورة السودانية الاخيرة والتي اسقطت ٣٠ عاماً من حكم البشير ستكون مجرد حلقة في المسلسل السوداني أم أنها ستحمل في طياتها الجديد، من تتابع الأحداث وطبيعة التدخل الدولي يبدو أن ثمة ما هو جديد فالشارع السوداني متمسك بحراكه ولا يغادر الشارع وهذا يدلل على انه سئم مناورات الاحزاب والجيش معاً ولا يريد ان يخلد الى لعبتهما التقليدية بتبادل الأدوار لفرض اجندتهم على الخارطة السياسية الداخلية لكن المشكلة ان الشارع لا يمتلك قيادة توحد قواه وتترجم ذلك الى هدف سياسي واضح، والاخطر من ذلك ان الجيش نفسه لا يبدو موحداً فقد ظهرت قوى خشنة اخرى موازية له وربما شكلت ايضاً دولة موازية قد يكون لها شأن في حسم الامور.
كل ذلك يقودنا الى الخوف على مستقبل السودان بسبب فشل نخبه في توحيد البلد وإيجاد هوية موحدة لمكوناته وفشلها ايضاً في ايجاد معادلة للتنافس السياسي بشكل سلمي ما ادى للنتائج الكارثية الحالية.
(الرأي)