يمكن ببساطة الاستكانة الى التفسير الايسر والاسهل لتحليل ما حدث تحت قبة البرلمان, بانه انفعال سبق مشاهدته تحت القبة كثيرا، وانه جرى ويجري وسيجري تحت قباب متعددة في هذا الكون المتحول الى قرية صغيرة بحكم مواقع التواصل الاجتماعي واختزال المسافات الكونية, كما حاول نائب تبسيط القصة على فضائية اردنية, وكذلك يمكن الاستكانة الى التفسير الآخر، الذي يتحدث عن نية مبيتة لدى لون سياسي ملتحٍ, يعاني من ازمة خانقة ليس على مستوى الاردن فقط بل على مستوى الخارطة العربية بمجملها, منذ ان خرج من سباق المسافات الطويلة في اتون الربيع العربي, خال الوفاض, بعد ان تنعم في القصور الرئاسية وجلس على مقاعد السلطة في اكثر من عاصمة.
كل ما سبق بالمناسبة صحيح, لكنه النتيجة وليس السبب, فلقد شاهدنا تحت القبة قضم اذان وركل واسلحة رشاشة, لكنها كانت ملاكمة شخصانية بمجملها, وليس في قضية استراتيجية تحتاج الى وعي وأناة في التعاطي معها, ولم يخرج احد علينا من المتلاكمين السابقين ليمنح لكماته قداسة او ثوبا جرى تفصيله من قماش طاهر, كما ان اللكمات والمشاجرات السابقة كانت وليدة ساعتها, وغير مسبوقة بمنهج اجرائي جرى رسمه بعناية, سواء في تجمع نقابي او في ساحة الحسيني, فالرسائل المتبادلة تحت القبة جاءت هذه المرة على شكل لكمات مقصودة, واثارة جلبة مدروسة كي يتحول السلوك الى خشونة وربما تنتقل الى ما وراء الخشونة بكثير.
لنعد الى السبب المتشعب الى أسباب لما, ظهرّته ملاكمة القبة, التي جاءت بعد ارتفاع الطلب المحلي على الاصلاح وضرورة تغيير النهج السائد في السياسة والادارة, فجاءت الاستجابة على شكل لجنة ملكية لتحديث منظومة الحياة السياسية, وما تستلزمه التحديثات من تعديلات دستورية, فجوبهت اللجنة منذ بواكير التشكيل بهجمة ممنهجة من انصار الوضع القائم, ويمكن تقسيمهم الى فئتين, الاولى فئة كبيرة من طبقة الحكم, التي رأت في تغيير المنهج إقصاء لها من الصورة, فكل ما تحصلته من مناصب ومواقع, لم يك وليد تجربة او عمل تراكمي, بل نتيجة علاقات في معظمها أثمة, فتحصلت هذه الفئة على مواقعها, نتيجة نسب او صداقة او مصلحة, وأصبحت تُسمي نفسها نخبة, والنخبة بتعريفها وتفاصيلها براء مما ينسبون.
الفئة الثانية هي المعارضة التي اعتادت ان تكون نقيضا لطبقة الحكم السابقة, فالمعارضة وجه آخر للسلطة, وهي بنَت كل استراتيجيتها على معارضة ومواجهة هذه الفئة من طبقة الحكم, فاستكانت ونجحت في فرز نفسها كمعارضة وحيدة, ونجحت في كسب الشارع الغاضب من تلك الطبقة, وبالمناسبة هي لا تفرق كثيرا عن طبقة الحكم, فهي متحجرة ومتكلسة ولا تقرأ التاريخ وحركته وسيرورته, ولو قرأت لما وصلت الى ما وصلت اليه بعد جلوسها على مقاعد السلطة في اكثر من عاصمة مؤثرة وقوية, وكادت ان تحسم مقاعد في جبهات ما زالت متحركة, ولم تحسم صراعاتها بعد, فكل قوة هذه المعارضة مستمدة من اخطاء وخطايا طبقة الحكم التي نجحت في تذخير اسلحة هذه المعارضة بكل الأسلحة اللازمة.
بشكل او بآخر, جرى توافق صامت بين الطبقتين, وقبلا بالمقسوم لهما من المقاعد والمكاسب, هذا في السلطة وذاك في المعارضة, وكل طرف يعرف الاخر بنواقصه ومواطن قوته, وتمت استباحة كل طرف ثالث, وسرى هذا التوافق ازمانا طويلة, ورأينا كيف تم تهشيم كل محاولة لبروز طريق ثالث, تارة بالاحتواء وتارة بالاقصاء الذي تلقفته المعارضة بكل صدر رحب, حتى لو كان من غير الملتحين او المرتدين قماش القداسة, ورأينا كيف تم اجهاض كل محاولات الاصلاح السابقة من الاجندة الى لجنة الحوار الوطني الى تفاصيل مشاريع الاردن اولا, وجرى تهشيم تلك المحاولات بتوافق صامت وغير معلن بين الطبقة السائدة والمعارضة القائدة.
الخاسرون من هذا التحالف, وجدوا في مخرجات لجنة تحديث المنظومة السياسية فرصة للخلاص من هذه الثنائية البغيضة, سواء من اركان الدولة المغلوبين على امرهم, او من المعارضين المكممة طموحاتهم, فانطلقوا نحو التقاط اللحظة محاولين البناء عليها, لكن تيارا القوة القائمة, التقطا اللحظة فجاءت الملاكمة كخطوة استباقية, لإجهاض القادم الذي ليس بالضرورة قادر على تغيير قواعد اللعبة السائدة, لكنها العادة في تخريب اي فرصة في البواكير وقبل ان ينبت لها اسنان لبنية او اظافر طرية حتى, فالتحالف الصامت له قواعد راسخة, ولن يقبل طرفي اللعبة تغيير القواعد.
من يراجع كل محاولات الاصلاح السابقة, سيجد ان طرفي المعادلة قد اتفقا على اجهاض المحاولات, من لجنة الحوار الوطني التي انتقلت الى الشارع, او لجنة الاجندة التي جرى أسرها في ادراج المسؤولين حينها, فكلا الطرفين يرفضان قراءة اللحظة وتقدير عمق الازمة في البلاد, ويرفضان اكثر بروز جيل جديد, ولد من رحم الازمة وفي اتونها, وقادر على الحل لانه ببساطة ليس جزء من الازمة.