عندي عقدة من "المؤن الغذائية" فقد كنت أرى جدتي تذهب من عمان الى مخيم البقعة لاستلام حصتها من مؤونة وكالة الغوث الدولية ، وتعود وقد تعرَّق وجهها الاشقر.
ذات يوم سألتها عن سر اصرارها على الحصول على حصتها من الارز والسمن والسكر والزيت ، والوقوف في طابور طويل ، فقالت ان القصة ليست قصة مؤونة ، القصة قصة اثبات انها نازحة ، وبحيث يكون الالتزام في الحصول على حصتها من المؤونة ، دليلا دوليا على انها نازحة لا بد ان تعود يوماً.
رحلت جدتي وبقي "كرت المؤونة" والاسماء التي تم تسجيلها فيه ، وواقع الحال اليوم يشي بأن ثقافة "كرت المؤن" باتت ثقافة عامة ، ولان رمضان يقترب ، يتم الاستعداد منذ اليوم من جانب كثرة من الناس لتقديم مساعداتهم في رمضان على شكل "بقج غذائية" للفقراء في البلد ، مؤسسات وافرادا وجمعيات ، والكل يعد "المؤونة" لتوزيعها على الفقراء من الشعب ، ولاننا في اجواء انتخابات نيابية ، فان الدعاية ستدخل طرفا في توزيع المؤن على فقراء الناس.
اللافت للانتباه ذاك التكسير الاجتماعي للانسان عبر ثقافة المؤونة ، فقد بات اغلب الناس اليوم يقبلون الوقوف في طوابير للحصول على حصتهم من المساعدات الغذائية ، ومن كان يرفض ان يتم التقاط صورة له في الطابور بات يقبل بكل رحابة صدر وهو يتسلم حصته من هذا المتبرع او ذاك ، وفوق ذلك باتت المنافسة فيمن لديه كروت مختلفة ومنوعة تؤمن له المؤونة من شتى انواعها.
تذهب الى معان او الكرك او قرى عجلون او المخيمات او البوادي او الاغوار ، فتكتشف ان هناك تغييرات اجتماعية هائلة سببها الفقر ، واذا كان المواطن يقف في الطابور من اجل المؤونة ، فان الاثر الاجتماعي لهذه الوقفة كبير جداً ومؤذْ ويؤدي الى تراجعات في الشخصية الاجتماعية ، على اساس ان العيب لا يطعم فماً جائعاً ، وخلخلة مفهوم "العيب" تفتح الباب لمدارات اخرى.
بين اولئك الذين يحملون كروت وكالة الغوث الدولية ، واولئك الذين يحملون كروت صندوق المعونة الوطنية ، واولئك الذين ينتظرون دورهم في الحصول على "كرت" من اي نوع كان ، فان عاصفة من التغييرات الاجتماعية هبت على الناس ، ابرز تداعياتها اليوم انك لم تعد تجد صعوبة في تصوير عائلة فقيرة ونشر صورها في صحيفة ، او بثها تلفزيونياً ، بعد ان كان الحياء والاعتزاز والانفة سمات اساسية في الشخصية الاجتماعية.
الفقير يأخذ حصته من المؤونة لكنه يدفع بعدها اثمان غالية من سمات شخصيتة الاجتماعية وسمعته ، وما كان مرفوضاً بات مقبولا ، وهذا التغيير يفتح الباب لتبدلات واسعة على غير مستوى وعنوان ، ابرزها تحطيم ثقافة العيب واحلال ثفافة اخرى ، تقول ان لا عيب في هذه الدنيا وان كل شيء يمكن التفاوض حوله.
لا نريد للناس ان يقفوا في الطوابير ، ومن اراد ان يساعد حقا ، فليكف الناس ، هدر ماء وجههم ، فوق فقرهم ، فالفقر قد يكون محتملا ، اما هدر ماء الوجه والعزة ، وتكسير البنية الاجتماعية ، فلا رد لها بعد ضياعها.
يأخذ الفقير كرتونة المؤن ، ويدفع ثمنها عشرة اضعاف سعرها الحقيقي.. أليس كذلك؟.
mtair@addustour.com.jo
الدستور