عندما يحضر قيس سعيّد في نقابةٍ أردنية
د.مهند مبيضين
27-12-2021 02:21 PM
في اجتماع استثنائي للهيئة العامة لنقابة المهندسين الأردنيين، عُقد يوم الجمعة الماضي (24 ديسمبر)، حدثت الجلبة والفوضى والتنابز والاختلاف غير الصحّي. ووصف بعض من بيت النقابة الحال بـ"البلطجة"، وهذا لا يعني التعميم طبعاً، فثمّة قيادات وقامات محترمة في هذه المؤسسة، ولكن من تابع البث المباشر للاجتماع الذي لم يتمّ، كان عليه أن يصمّ أذنيه كي لا يُفجَع بالمؤسسة المهنية الأهم في تاريخ الأردن، وكي لا يرى وعيد بعضهم ومناشدة الآخر تغليب الحكمة، ومن حضر الاجتماع من شهود قالوا إن ما بُثَّ نزرٌ يسير من القصة المؤلمة.
لم تنجح دعوات النقيب أحمد سمارة (من التيار القومي)، ولا زملائه، في تهدئة اللقاء الغاضب الذي جاء بدعوة لطرح مشروع تعديلاتٍ لقانون ونظام جديد يعالج وضع النقابة ويحدّث عملها، لكن السفن جاءت بخلاف ما يشتهي تيار يضم القوميين واليساريين والمستقلين والإسلاميين المستقلين الذين تبنّوا التعديلات، فأطاحت الفوضى اللقاء الذي شهد مغالبةً مبكرةً تفتح الباب على شكل انتخابات مجلس النقابة في مايو/ أيار المقبل، وتوحي بطبيعة الصراع والصدع داخل النقابة. وكانت أصوات منتسبي تيار "إنجاز" المكون من "القائمة البيضاء"، الممثلة للتيار الإسلامي ومستقلين، غالبة وعالية، وأمام تصاعد الجدال كانت أصوات من التيار تهتف وتشبّه النقيب الحالي بالرئيس التونسي قيس سعيّد.
كأن سفينة النقابة تبحر في بحر هائج، في أول اجتماع عام تسمح به الحكومة بعد جائحة كورونا، وهذه النقابة المتصدّعة اليوم بخلافات كبيرة لطالما نجت وأنجزت للأردن الكثير منذ تأسيسها عام 1948 جمعية مهنية للمهندسين، ثم حصلت على الترخيص في 1949، وكانت الهيئة العامة الأولى لنقابة أصحاب المهن الهندسية في 1958، وكان لها مركزان، في عمّان والقدس، وصدر أول قانون لها عام 1972. حضرت النقابة التي يختلف الرفاق والشيوخ فيها اليوم في أزمنة الحكم الأردني كلها، وأعطت الدولة الكثير من المنعة المعرفية والسياسية، معرفياً: بخبرات وكوادر بناء ومشاريع هندسية كبرى وحضور مهني محترم عربياً. وسياسياً حين كانت النقابة الحاضر السياسي والموجه للشارع، حين غُيبت الأحزاب بعد نهاية الخمسينيات من القرن العشرين، وحضر أعضاؤها في المؤتمرات القومية والإسلامية بشكل محترم أيضاً، ومثّلوا الأردن العربي الإسلامي بكل كرامة.
نعم احترفت نقابة المهندسين السياسة أكثر من المهنة ذاتها، وكذلك حال نقابات أخرى، مثل المحامين والأطباء وغيرهما. وحين كانت الدولة تريد مضايقة النقابات لنشاطها السياسي، كانت حجّتها أن النقابات لا تعمل على تطوير (ورعاية) مهنها التي من أجلها أقيمت، وأنها تتعاطى السياسة أكثر. وتاريخياً، كان عمل النقابات حرفيّاً وسياسيّاً. كان زعيم النقباء والأصناف في المدن التاريخية يجمع بين ولايته على الحرف وعلى الطرق الصوفية وعلى الشراكة أحياناً مع السلطة في سلسلة من المنافع ويدخل أحياناً بالصفقات والتجارة.
المهم أن نقابة مهندسي الأردن اليوم على مفترق طرق، تبدو فيها كل علائم عدم التوافق، وعدم الارتياح، وقد يكون لوجهات النظر والقوائم، على تعدّد ألوانها بين خضراء وبيضاء، حجّة دامغة كلٌّ تجاه الآخر، لكن المؤسّسة النقابية التي حين أرادت تصحيح وضعها المهني جنحت في أول لقاءاتها وكأنها على ضفاف عمر البلوغ. ولم يكن مفسّراً الهتاف للرئيس التونسي قيس سعيّد، إلا أنه نقيض للإسلاميين الذين انقلب عليهم، وانفرد بالسلطة دونهم، وعطّل الدستور والحياة الديمقراطية. وكان في وسع من هتف أن يختار نموذجاً أفضل يهتف باسمه ويستدعيه إلى بيت النقابة. وهذا التشبيه بالانفراد بالرأي نفاه النقيب أحمد سمارة، لكن الحال يبدو جلياً في أن ثمّة صراعاً كثيفاً يغلف المشهد داخل النقابات، وهو انقسامٌ مردّه إلى حضور السياسة في النقابات أكثر من وجوب الاهتمام بالمهن وتطويرها ورعاية منتسبيها.
صحيحٌ أن نقابات الأردن كانت الحاضر والمعوّض عن فشل الأحزاب في السياسة، وأن لها دوراً وطنياً كبيراً، يعظّمه كل من ينظر إليها بإنصاف، لكنها اليوم أمام منعطف مهني كبير، وقد كانت نقابة المهندسين تستعد، في اجتماعاتها، كما أعلن نقيبها أحمد سمارة الزعبي "لمناقشة التعديلات المقترحة على قانون النقابة والتصويت عليها". ما هي التعديلات، وما جوهر الخلاف؟ يذكر الموقع الإلكتروني للنقابة أنه، بموجب التعديلات المطروحة، سيُطبَّق التمثيل النسبي في انتخابات الهيئة المركزية وانتخابات مجالس الشُّعَب ومجالس فروع النقابة في المحافظات، مع الإبقاء على آلية انتخاب هيئة المكاتب والشركات الهندسية ومجلس النقابة على ما هي عليه. وخفضت التعديلات سنّ الترشّح لمنصب النقيب ونائب النقيب وأعضاء مجالس الشعب والفروع، إضافة إلى تثبيت الشُّعب في القانون ونقل تحديد الأقسام والفروع للنظام الداخلي من أجل المرونة في إنشاء أقسام جديدة وفروع للشعب من دون أن تكون مقيدة بالقانون، وإعطائها فرصة التعامل مع التطوّرات العلمية والتكنولوجية. واستحدثت تعديلات القانون بإضافة الدمغة الهندسية، بهدف جلب إيراد إضافي للنقابة من خلال نظام الطوابع واستخدام الدمغة الخاصة بالنقابة.
وتتضمّن التعديلات أيضاً تعديل الرسم المستوفى كرسوم إضافية ليصبح ربع الرسم بدلاً من نصف الرسم، وإعفاء المهندسين غير المسدّدين الرسوم السنوية من الرسوم الإضافية المستحقة عليهم سابقاً، إذا تقدّموا بطلب إعادة تفعيل العضوية خلال عام من تاريخ نشر التعديل، لتشجيعهم على إعادة تفعيل عضويتهم. واستحدثت التعديلات الجديدة امتحان ممارسة المهنة للعضو المقبول في النقابة للسماح للمهندس بمزاولة مهنة الهندسة من أجل ضبط الرقابة وفرضها على ممارسة المهنة.
الناظر في التعديلات يجدها إيجابية، لكن لماذ رفضها اليوم؟ بالعودة إلى قرار الهيئة العامة عام 2009 نجد أنه اعتمد التمثيل النسبي في الانتخابات، كأن تطبيق ذلك لم يتم في زمن كانت فيه قيادة النقابة ومجلسها بيد الإخوان المسلمين، ولاحقاً ماطلوا فيه، ثم شكّل المجلس "لجنة للنسبية" لوضع المقترح، واستمر عملها بين عامي 2009 و2018، إلى أن حصل الاتفاق على إقرار التمثيل النسبي، في عهد المجلس الحالي الذي يقوده تيار "نمو"، الذي أعاد تشكيل لجنة النسبية لتضم خمسين عضواً من كل الأطياف السياسية التي تمثل كل الأطياف في النقابة، وجاءت مخرجات اللجنة باعتماد القائمة النسبية المفتوحة لانتخابات مجالس الفروع والشُّعب الهندسية والهيئات المركزية، وهو أمر أثار حفيظة تيار "إنجاز" الرافض تلك الاقتراحات والتعديلات، ودون تبرير، وقد مُثل التيار في لجنة النسبية.
ترفض قائمة إنجاز (البيضاء)، التي تضم الإسلاميين وحلفاءهم سابقاً، تعديلات قانون نقابة المهندسين، التي تشمل نحو 15 مادة ذات طابع مهني، وبعضها يختص بالمهندسين الشباب وتوسيع آفاق التشغيل، ولكن القناعة بأن أسّ الخلاف والتشدّد في موقف "إنجاز" هو تعديل النظام الانتخابي واعتماد النسبية. إذ لعلّ الظاهر اليوم خلافٌ على شكل نظام الانتخاب في نقابة المهندسين التي حدثت فيها خطابات وبلاغات عديدة في اجتماعها الاستثنائي، فهناك من ردّ على الفوضى بالقول إن اللقاء والرد سيكون في صندوق الاقتراع، وهو ما صرّح به النقابي العتيد، المهندس ياسين الطراونة، وهناك من ذكّر بأنه من الحراك النقابي ومن قادته، في إشارةٍ إلى دور النقابات في أحداث الداور الرابع (حيث مقر رئاسة الوزراء) إبّان حكومة هاني الملقي عام 2018، وهناك من أراد إرسال رسائل إلى الدولة عن بلوغ الأزمة النقابية أقصى منتهاها، وبما يخدم الحكومات بتفكيك النقابة ذات الحضور الصلب، والكتلة الحرجة، في مواجهة سياساتها الاقتصادية وضد الحريات العامة، ما يعني أن درس نقابة المعلمين (المنحلة) متمثل لدى كثيرين!
يدلّ الوضع الراهن أردنياً على أنّ العمل العام في خواتيمه، في زمن التحديث السياسي، ويبدو أنها نهاية مطلوبة لمصلحة الأشكال الجديدة المطروحة هندسياً للمجتمع وللساحة من أحزاب برامجية ودعوة إلى تفعيل المجالس النقابية، بعد استفحال مشكلات الهيئات العامة في النقابات وانهيار صناديق التقاعد، ومثال ذلك نقابة الأطباء، وذلك كله قد يؤول بالنقابات إلى خيار انتقالي حرج.
وفيما ينظر الإسلاميون إلى النفوذ وحسابات المصالح والبقاء، يصرّ التيار القومي وتحالف نمو، واسع التعدّد، على الحفاظ على استقلالية النقابات والثوابت الوطنية، من دون تخليها عن الدور الوطني الفاعل، "لسنا دعات مهننة النقابات فقط كما يُطرح من الجماعات القريبة من الجهات الرسمية، ولا نتخلى عن مقاومة التطبيع وتعزيز الحريات وغيرها من الثوابت"، كما يقول عضو المكتب التنفيذي في تيار نمو، المهندس أشرف العمايرة.
الثابت أن النقابات الأردنية اليوم قلقة، ويُعاد النظر في حضورها، وما أحرزته من نصر على حكومة هاني الملقي أواخر مايو/ أيار 2018، إثر قانون ضريبة الدخل الذي كان مطروحاً، بات بحكم الضائع بعد إقرار القانون لاحقاً، وكان ذلك النصر، بعد تلويح بإضرابٍ عام، هو الأول من نوعه في تاريخ الأردن، وكان احتجاجاً على النهج الاقتصادي وسياسات الحكومات، وهو نهجٌ لم يتغير اليوم كثيراً.
صحيحٌ أنّ هناك استثماراً في حالة الهيجان الإخواني في الاجتماع المشار إليه، وهي حالةٌ شاهدها كلّ من تابع اجتماع النقابة يوم الجمعة الماضي، ولكن لدى الإسلاميين أيضاً ما يشاركون به التيار القومي من هواجس قلق تجاه مصير البيت النقابي، لكن هذا كله لا ينفي فرضية استجرار النقابة إلى صراعٍ يؤدّي إلى إضعافها وإنهاء حضورها السياسي الوطني والعربي، وحصرها بمقولة المهننة وتبعاتها.
(العربي الجديد)