في اعادة الهيبة للإدارة العامّة الأردنيّة
فيصل تايه
27-12-2021 12:15 AM
جاء تشكيل لجنة تحديث القطاع العام التي تولى رئاستها دولة رئيس الوزراء الدكتور بشر الخصاونه وضمّت في عضويَّتها عدداً من الوزراء والمسؤولين المختصِّين ، وعدد من الخبراء ممَّن لديهم الخبرة والتجربة في الإدارة العامَّة، اضافة الى بعض الشخصيَّات من القطاع الخاص ، تأكيداً على ضرورة إحداث تغيير نوعي في تحديث الإدارة العامَّة والخدمات ، فتشكيل هذه اللجنة جاء ضمن المسار الثالث من مسارات التَّحديث الشَّامل وانسجاماً مع التوجيه الملكي السامي ، الذي تعمل عليه الحكومة، بالتزامن مع مساريّ التَّحديث السياسي والاقتصادي ، والذي تضمَّن اتخاذ جميع الإجراءات اللَّازمة لإعادة الهيبة والألق للإدارة العامّة الأردنيّة، ومعالجة الأوضاع غير الحميدة التي ظهرت أخيراً في القطاع العام .
اللَّجنة وفق ما اعلنه وزير الدَّولة لشؤون الإعلام، النَّاطق الرَّسمي باسم الحكومة فيصل الشبول ستعمل على دراسة واقع القطاع العام ، والتأشير على مواضع الخلل لتصويبها، ومواضع الإنجاز لتعزيزها والبناء عليها ، والتأكيد أنَّ الحكومة ستقوم بناءً على توصيات اللجنة باتخاذ إجراءات ملموسة تسهم في رفع كفاءة المؤسّسات الحكوميّة ، وترشيق أدائها، وتحسين مستوى الخدمات المقدّمة للمواطنين ، فيما سيتركز عمل هذه اللجنة على كيفيَّة إحداث نقلة نوعيَّة في الخدمات الحكوميَّة وأتمتتها، بهدف التسهيل على المواطنين، وتوفير الوقت والجهد والكُلف عليهم، إلى جانب تفعيل مبدأ الثَّواب والعقاب، بما يضمن مكافأة الموظَّف المتميِّز الحريص على الإنجاز، واتخاذ ما يلزم من إجراءات بحقّ من يعرقل الإنجاز ويعيق تقديم الخدمات للمواطنين.
اننا نعي تماماً أنَّ الإدارة العامّة الأردنيّة لعبت على مدى عقود دوراً محوريّاً في نهضة الأردنّ وفي خدمة العديد من الدُّول الشقيقة ، وظلّت على الدوام انموذجاً للعمل الجاد ومضرباً للمثل، كما وأثبتت قدرتها على العمل والإنجاز في أحلك الظروف، لكنها وللاسف شهدت وخاصة خلال السنوات الماضية تراجعا بالأداء والإجراءات البيروقراطيَّة، الأمر الذي بات يشكِّل عائقاً أمام إنجاز معاملات المواطنين والمستثمرين ، ما يتطلب التأكيد على سعي الحكومة من أجل إعادة الألق لها، وتجسير فجوة الثِّقة بين المواطن ومؤسّساته ، وتحديد أوجه القصور في القطاع العام، وتحديد المجالات الممكنة للتحسين والتَّطوير .
لكننا وحين نعود لنسلط الضوء على ما وصلت اليه الادارة العامة الاردنية من تراجع ، فقد بات من المؤكد أن ازمة الاردن خلال السنوات الاخيرة هي بالمطلق "ازمة ادارية" قبل ان تكون سياسية او اقتصادية ، ذلك في الاشارة الى تراجع واضح في اداء الادارة العامة والادارة المحلية والتي اسهمت في بروز ازمات وتحديات اقتصادية وسياسية وعدم قدرة من الجهاز الاداري على التعاطي معها وفق منهجية ثابتة ومستقرة ، نتيجة افرازات في التحولات الاقليمية التي وضعت صاحب القرار في موضع التردد والخوف من اتخاذ قرارات صادمة للشعب.
هذا ، وأحسب أن المساهمة الحقيقية في العملية التنموية هي جودة الإدارة وقوتها كونها الدافع الحقيقي للتطور وفي دفع ماكينة الإنتاج وتحقيق المراد على الوجه الأكمل الذي ينبغي أن يكون عليه في الحاضر والمستقبل ، لكن ذلك يطصدم اما معوقات تعود الى الضعف الإداري في ادارة شؤون الكثير من المؤسسات الحكومية الرسمية مخاطر وخيمة ، فإذا اختلت نظم الإدارة افشلت الدولة وتهاوت وقوضت أركانها ، واستفحل الفساد الذي هو سبب في شقاء المجتمعات والذي لا يجر وراءه إلا الفساد ، وهنا التأكيد أن الضعف في الإدارة يؤدي حتماً إلى مس هيبة الدولة وافشالها .
ولذلك فمن أسباب نجاح أي عمل في الحياة (الرقابة عليه) كي يشعر القائم على هذا العمل بالمسؤولية الذاتية والمفروضة وحتى يظهر العمل المنشود جلياً وكما يجب أن يكون ، لأن غياب الرقابة والإدارة الرشيدة وضعفها والقائمين عليها نتائجها تكون محسومة سلفاً ، ما زلنا نعاني من سوء وضعف في الإدارة وحسن النية في استخدام الوظيفة العامة ، في ظل غياب الرقابة التي ترصد المشهد العام للأداء الوظيفي والمالي من جهة وكذا غياب القانون الرادع في لحظات الدراما من خلال العلاقات الشخصية والمحسوبيات وصلة القرابات التي تتخلل عملية الفساد واستغلال الإدارة المتسببة بوقوع الجريمة بحق المال العام ، وهذا يمثل أسوأ حالات وأنواع الفساد في الدولة بشكل عام .
اننا وحين نتحدث عن هذا الموضوع لا بد من تشخيص جريء للحقيقة والواقع بكل تفاصيله ، فبالرغم من احتياجنا الدائم الى قيادات ادارية اصلاحية في الكثير من قطاعات الدولة ومؤسساتها ، فكم نحتاج الى شخصيات تاريخية تعي بطبيعة المركز المستند الى ثقافة البصيرة الواعية بالمهام والمسؤوليات والقدرة على اتخاذ القرارات ، لذلك وفي الحقيقة اننا بحاجة إلى من يقود الأجهزة الادارية في مؤسساتنا والتي يجب ان تكون قادرة على اتخاذ قراراتها بكل همة ومسؤولية ، بعيدا عن المازومين والموتورين ممن ينقلون فشلهم من مكان الى آخر معتمدين على الذاتية والابتعاد عن فعاليه التعاضد و التكاتف مع الآخرين والاعتماد على الشلليات التي تختبئ في جلد نمر ، فما يهم في المقام الأول دعم اتجاه المحاسبة والمساءلة والنقد والكشف والشفافية ، ما يدفعنا لإعطاء العقل فرصة تمكن من تلمس الواقع الذي يحتاج الى فكر قوي وهمة عالية واعتماد المؤسسية وارتقاء فاعل لمرحلة الادارة الرشيده خاصة عند أصحاب السلطة في مؤسسات الدولة الخدمية
لكن المشكلة تبقى في العقلية المهيمنة والمسيطرة عند البعض ، والتي يعتبرها ذلك البعض مصدرا للجاه والسلطة وفخراً واسقواءً على ذلك النحو الانجرافي غير الناضج من ناحية عملية ، فالقرارات الصادرة عن تلك الشخصية الجدلية على نحو تخبطي دون تبصر حقيقي ستفضي بالمنطق إلى طامة كارثية مؤجلة ، فمن المؤكد أننا سنكون وللأسف في حالة من التخبط في بعض مؤسساتنا مع تراكم فشل بعض المسؤولين وسنرتطم بواقع نخشى ان تكون تبعاته وخيمة ، ونجد ايضا أنفسنا في مشكلة الاستغلال ذاتها ، وعدم إنفاذ القانون في ظل نشوء طبقة مهيمنة داخل كل مؤسسة تدور رحاها في حلقة مفرغة دون معرفة الإطار العام لفلسفة الفعالية المجديه.
نعم ما زلنا نتشبث بالنموذج العربي المتبلد بالمفهوم الشرقي للمسؤوليات والمراكز القيادية والذي ترسخها الثقافة العامة الموروثة والمتجذرة في نفوس الكثيرين رغم الدعوات المتكررة لأصحاب النفوذ والقرار من أعلى سلطة في الدولة الى ضرورة ترسيخ الديمقراطية في كافة اجهزة الدولة كثقافة ومنهاج عمل وأسلوب حياة ، لكن البعض ما زال ينقاد للولاء والطاعة الشكليه للوطن ، ويستخدم هذا المفهوم وللاسف من أجل بسط قرارات الهيمنة والنفوذ الضيق بعيدا عن الدمقرطة بمفهومها الحقيقي وخلق نسق وظيفي قيادي فعّال ، بل الاستماته إلى أقصي درجة ممكنة لاختزال الفكر العصبوي باعتماد المنصب والمركز القيادي وإبقاء المآلات المركزية في كل الاتجاهات ولكل الاحتمالات دون الأخذ بالتغيرات والحاجات التي تفرضها طبيعة المؤسسة او الوزارة .
في الحقيقة كل ما في الأمر أن الجهاز الوظيفي ومناصب الصف الأول في دولة متحضرة كدولتنا الاردنية ستتقوقع أمام الوعي والحداثة ما دام البعض من المسؤولين ينتهج سياسة القرارات المركزية المهيمنة والابقاء على العقلية البيروقراطية التقليدية ، مع الحاجة للدفع بالاتجاه الحقيقي نحو احداث التغيير الجذري في العقل المسؤول وسياسة الادارة المركزيه والارتقاء لمرحلة الرشادة في القرارات الحكيمة الفعالة.
بالمختصر .. لا بد من الاتجاه الحقيقي نحو إحداث التغيير الجذري في العقل المؤسسي لقطاعات الدولة المختلفة وطريقة إدارتها بالشكل الذي يمكنها من إدارة شؤونها وتحقق أهدافها المرجوة من خلال شخصيات وطنية قيادية مؤهله ذات بعد كارزمي تقنع الجميع بالالتفاف حولها وتستحق المكان والمنصب ، وليست مشروع سيطرة واستحواذ وتسلط ..
بقي ان أقول ان تحديث القطاع العام بات ضرورة باعتباره رافعة أساسيَّة للإصلاح الاقتصادي والإصلاحات المرتبطة بتحديث المنظومة السياسيَّة ، سائلا المولى عز وجل التوفيق لهذه اللجنة التي ستعمل ضمن إطار زمني واقعي محدَّد بستَّة شهور ، لتقدِّم في نهاية عملها خارطة طريق شموليَّة، وبرنامجاً تنفيذيَّاً لتحديث الإدارة العامَّة ولتبسيط الإجراءات وتطويرها ، فلننتظر .
والله ولي التوفيق