الهوية الوطنية .. المصطلح الغائم في التوقيت الخاطئ
سامح المحاريق
26-12-2021 06:32 PM
كنت أتابع قبل سنوات، تقريباً 2007 و2008 اشتباكاً في الآراء احتضنه وقتها موقع عمون، وكان يراوح حول موضوع الهوية الأردنية، وكان ذلك الحوار واحداً من الأسباب التي دفعت إلى حملة على المواقع الإلكترونية وبين ليلة وضحاها، لهذا السبب أو ذلك، بإلغاء آلاف التعليقات على المقالات، اليوم أجد أننا بحاجة فعلاً إلى قراءة هذه التعليقات ودراستها، ولا أعرف إن كان الأخ سمير الحياري يحتفظ بها، وإن كنت أتمنى ذلك، فهذه النقاشات التي احتدمت أيامها، يمكنها أن تستكمل الجانب الشعبي لفكرة الهوية الوطنية والذي يعاني اليوم من جدال اتخذ الطابع السياسي والنخبوي.
أستغرب أننا نعود مراراً وتكراراً إلى مقولة الهوية، وهي مقولة تنتمي إلى طائفة المقولات الواسعة والفضفاضة مثل الخير والعدل والحرية، أي أنها في طبيعتها مستعصية على التعريف، وتكاد تقبل الرأي ونقيضه أحياناً، ولست أجد سبباً لاستثارة موضوع الهوية في الوقت الذي نحتاج فيه إلى الحديث عن المواطنة، وهي المعامل الرياضي الذي يمكن إدخاله في أي معادلة من خلال نقرات سريعة على لوحة المفاتيح لاستخراج الأرقام الوطنية للأردنيين، ويمكن قياسها على مجموعة من الحقوق والواجبات التي تقرها القوانين السارية.
قبل أن نفهم الهوية، علينا ربما أن نعيد تعريف مجموعة من الأمور، الدولة تحديداً، فنحن لا نستطيع أن نتحدث عن الدولة ونحن نسبغ عليها صفات غير قابلة للتعريف القانوني لأن الدولة كيان قانوني، فالدولة لا تهبط من السماء، هذه أمور تستدعيها ضرورة وجود الشرعية والتي تقبل بعضاً من الأساطير المؤسسة أو الروايات التاريخية المتوافق عليها، فرنسا مثلاً استدعت هوية شعوب الغال، مع أن أرضهم لم تكن تمتد يوماً على الأرض الفرنسية بأكملها، كما كانت ثمة شعوب سابقة عليهم، وربما يشكلون الغاليون اليوم نسبة ضئيلة من سكان فرنسا، وعلاوة على ذلك، فالانتماء إلى العرق الغالي لا يعني أن الشخص من حقه أن يكون فرنسياً، والدولة هي تدبير أرضي، جرى خلطه أيضاً بمفهوم الوطن، والأردن دولة، ولكنها التقاء مجموعة أوطان محلية في الوقت الذي تشكل فيه جزءاً من أوطان ممتدة أخرى، سوريا الكبرى وما يمكن وصفه بالوطن العربي.
نحن مواطنون في دولة، هذه هي العلاقة القانونية والمتواصلة التي تربطنا، فالأردنيون هم مواطنو الدولة الأردنية، وذلك لا ينفي أنهم مختلفون ومتباينون في معتقداتهم وأفكارهم وأمزجتهم وأنماط حياتهم، شأن أي مجتمع آخر، والحوار السياسي يجب أن يقوم على أرضية العلاقة بين المواطنين، أما العلاقة بين هوياتهم فهذه بوابةً لا يمكن أن تكون جامعةً أصلاً، لأن الأصل هو التباين في الهوية بين شخص وآخر.
الدولة الأردنية بدأت بالمقيمين على الأرض عند تأسيسها، ومعهم المنضوون في مشروع الثورة العربية الكبرى، ولم يتحصل الأردنيون على خارطة كاملة وشبه مستقرة إلا بعد تأسيس الإمارة ببضع سنوات، وحدثت الإزاحات السكانية الكبيرة نسبياً قياساً بجغرافيا الأردن وإمكانياته الطبيعية، واستيعاب هذه الإزاحات كان يتم أحياناً مع الأرض، وأخرى من غيرها، ولكن الأرضية الأوسع كانت ساخنة، ولا يمكن محاكمة التعامل مع هذه الإزاحات السكانية بأي منطق يعتمد على الوضع الراهن، فكل القرارات اتخذت بناء على الظروف السائدة في الأربعينيات أو الستينيات، ولكن يمكن القول، بأن الاستقرار في مفهوم إنتاج المواطنة الأردنية استقر نسبياً في السبعينيات وبقي على ذلك حتى اليوم، والأردن بلد كلاسيكي في مسألة المواطنة، فالأردنيات لا يمكنهن توريث الجنسية لأبنائهن مع أقل من 25 دولة أخرى حول العالم، ولا توجد أي قوانين للتجنيس للمقيمين مهما بلغت مدة اقامتهم في الأردن.
ما الذي يمكن أن يدفع لمناقشة الهوية من جديد، ولماذا نستهلك أنفسنا في الخوف مما قد لا يحدث مطلقاً، لنقل إزاحة سكانية من فلسطين؟ من سيقوم بها، ولماذا؟ وبدايةً هل هي الخطر الوحيد على الدولة الأردنية، وبالتالي على المجتمع الأردني؟
لماذا لا نندفع في المخيلة لنصل إلى نتيجة مفادها أن تفاعلات الأوضاع في سوريا كان يمكن أن تؤدي إلى انهيار الدولة، وحرب الجميع ضد الجميع، ألم يكن ذلك ليطرح فكرة تمدد الأردن في جنوب سوريا، وألم يطرح ولو بصوت خافت وعلى سبيل اليأس ضم الأنبار إلى الأردن في لحظات حالكة من تاريخ العراق الحديث؟
هذه أمور مستبعدة، والدولة الأردنية، وروايتها الوطنية استطاعت أن تستوعب داخل كيانها المعاصر الروايات الفرعية وثقافاتها مثل حوران وتاريخ آلاف السنين من الحضارة، ولكن الأوضاع في فلسطين مشتعلة دائماً، الجانب الإسرائيلي، يريد الأرض من غير السكان، ولو بقي السكان على جانب من الأرض فربما يحتاج الأمر سيادةً أردنية من جديد، والأردن الذي فقد الضفة الغربية ليس عليه أن يرتضي بعظامها اليوم بعد خرائط صفقة القرن والتمسك بمناطق ج من الجانب الإسرائيلي، ثم أن ذلك يصادر على الفلسطينيين من حيث المبدأ حقهم في إقامة دولة تحت مسمى فلسطين ولو حملت يافطة "ما تبقى لكم".
ولا ينفي ذلك، أنني مثل أردنيين كثيرين ربما لا أمانع يوماً في شكل من التكامل مع العراق أو سوريا أو مصر أو الخليج يتم منحي من خلالها معاملة تفضيلية مثل السفر والعمل والتملك كما هو قائم في الاتحاد الأوروبي، على أن يمنح مواطنو هذه الدول نفس الحقوق في الأردن، ويؤدوا تجاهها واجبات محددة ومعينة.
محددات الهوية مختلفة عن محددات المواطنة، فأنا أردني عربي ومسلم، هذه مواصفات هويتي، ولكن لا أستطيع أن أفرضها على جميع الأردنيين، أما المواطنة فهي القاسم الأساسي الذي يمكن من خلاله الحديث عن الدولة، فهل نريد تحديث الدولة أم هندسة المجتمع؟ ما هو موضوعنا أصلاً؟
يمكن للدولة أن تمنحني صفة المواطنة وأن تنزعها مني، هذا تعبير عن إرادة ممثلي الشعب الذي يشكل الدولة، أما هويتي فانتزاعها أمر متعذر لأنها غير ملموسة وتشكل تراكماً تاريخياً يمتد لآلاف السنين، ومواطنتي تعمل في مجال اجرائي واقعي ويومي، وفي مجال آخر، تفرض هويتي طبيعتها.
الإصلاح السياسي هو إصلاح يستهدف التفرع لإصلاح اقتصادي وإداري وقانوني من خلال الدفع بطبقات وفئات جديدة من ممثلي المجتمع، أما إصلاح المجتمع فهو فكري وتربوي، وبذلك، يمكن أو يفضل النظر إلى طرح مصطلح الهوية الجامعة على هامش أعمال لجنة تحديث المنظومة السياسية وفي نفس توقيت خروج مصفوفة الإصلاحات السياسية على أنه مجرد نزوة بلاغية لا أكثر.
مناقشة الهوية مسألة على قدر من الأهمية، ولكن ذلك يحتاج إلى هدوء وقدر كبير من المصارحة والمكاشفة، وفوق ذلك، وقتاً طويلاً، في الحقيقة لا نمتلكه، وكل ما نحتاجه هو تجاوز الهوية بأكملها والتمسك بالمواطنة التي أخذت تتشكل في العقدين الأخيرين بصورة شبه ناجزة، وعلى أرضيتها يمكن الحديث عن قضايا كثيرة مثل التنمية ودور الحكومة والسياسة الاقتصادية، أما أن نعود من جديد لهذه الجملة البليغة والجذابة "الهوية الوطنية الجامعة" وأن نبدأ في معارك جديدة فالأمر يستهلك عقولاً نحتاج إلى حوارها والحديث معها للبحث عن أطر معاصرة ومجدية لتجاوز أزماتنا المزمنة والمستجدة، وإذا كان يمكن مثلاً الوقوف على موجة سابقة من خلال الطلب من ناشر موقع عمون تمكيننا من أرشيفه الثمين، فإنه لا يمكن الإبحار بعيداً على مواقع التواصل الاجتماعي ولا ضجيجها الإلكتروني البريء والمبرمج لقياس توجه المزاج العام.
فإنه لا يمكننا اليوم مطاردة المصطلح والانفعالات والانطباعات حوله في مواقع التواصل وضجيجها البريء أو الممنهج لنقف على تصورات متباينة حول المفهوم في صورته الشعبية التي بالتأكيد تفضي إلى ما يفرق لا ما يجمع.