حديث هادئ في الإصلاح الإداري ..
محمد حسن التل
25-12-2021 04:14 PM
عندما يبدأ الموظف الحكومي بالابتسام في وجه المواطن ويعمل على خدمته بنفس راضية مقتنعا أن هذا واجبه، ساعتها نعلم أن الإصلاح الإداري قد بدأ. وعندما لا يعود المواطن يشعر بالهم عند علمه أن عليه مراجعة أي دائرة حكومية، وتبدأ عنده رحلة البحث عن واسطة حتى يتمكن من إنجاز معاملته، تكون عملية الإصلاح الإداري قد سارت في مجراها الصحيح.
هذه الأسس الأوليه لبداية مرحلة الإصلاح الإداري لدينا، فإعادة تأهيل الموظف الحكومي خطوة مهمة وأساسية في عملية إعادة بناء الإدارة الأردنية وهذا يتطلب جهدا صادقا وكبيرا؛ فهذه الإدارة تعاني اليوم من خلل كبير وعميق، ويكاد الخراب يتجذر بها، وهناك الكثير من الخبراء رأيهم أن الإدارة لدينا قد انهارت تماما على كل المستويات، ورأيهم هذا مستندا إلى الفوضى الكبيرة التي تجتاح هذا القطاع، والتي تتبدى أولا في الازدحام الشديد في الجهاز الإداري الحكومي نتيجة التعيينات الكثيفة دون الاستناد إلى أسس علمية ودون الأخذ بعين الاعتبار عامل الكفاءة الذي يجب أن يعتبر الأساس في اختيار أي موظف عام، كذلك عامل الحاجة من عدمها في التعيينات.
ليس من واجب الحكومة القيام بتعيين الآلاف من الموظفين سواء احتاج لهم العمل أم لا، بحجة مكافحة البطالة والفقر على حساب الأداء وجودة الخدمة المقدمة للناس، فهناك كثير من الدوائر الحكومية أكثر من خمسين بالمئة من موظفيها لا تحتاجهم، وهذا الأمر قطعا يؤثر على الأداء مما ينعكس عنه سوء الخدمة، كذلك يرتب على خزينة الدولة المتعبة أصلا عبئا ثقيلا ينعكس على قطاعات أخرى تحتاج هذه الأموال.
بالتأكيد لا أدعو إلى إيقاف التعيينات في الجهاز الحكومي، ولكن لا بد من مراعاة الكم والنوع والحاجة؛ إذ لا يجوز أن تحتاج معاملة واحدة في ظل هذا الازدحام في الإدارات الحكومية إلى أكثر من خمسة موظفين، خصوصا أننا نسير إلى حوسبة كل التعاملات الحكومية في الخدمات، وإذا استمرينا على هذا النهج في التعيين والسكوت على الواقع الحالي، فإن مؤسساتنا العامة ستتحول جميعها إلى صندوق معونة وطنية.
الأولوية الآن هي تحرير الجهاز الإداري الحكومي من كل الأخطاء والعلل الكبيرة التي يعاني منها نتيجة سياسات خاطئة تراكمت مع الزمن حتى يستطيع هذا الجهاز أن يقدم خدماته للأردنيين بطريقة عصرية تريح الناس وتسهل عليهم،
والإصلاح الإداري لا يكون بهذه الجوانب فقط، فهناك أخطاء كثيرة غير ما سبق، أهمها وجود الهيئات المستقلة التي نشأت في العقدين الماضيين نتيجة سياسات وتوجهات أربكت المشهد وأدت إلى تناقض كبير في القرارات، فمن غير المعقول أن يكون لدنيا وزارات مختصة منذ عشرات السنين في شأن ما، كالطاقة والسياحة مثلا والمياه وغيرها، ثم يتم إنشاء هيئات في نفس الاختصاص توازيها دون مبرر، ويكون قرارها في كثير من الأحيان غالب على قرار الوزارة المعنية صاحبة الاختصاص في الأصل.
إضافة إلى الخلل الكبير في الرواتب والامتيازات الذي يدعو للريبة في عملية تأسيس هذه الهيئات والغاية منها.
إن من أهم خطوات الإصلاح الإداري القيام فورا وبالسرعة الممكنة بإلغاء هذه الهيئات وإفساح المجال أمام الوزارات للقيام بعملها بشكل مستقل وحرية كاملة تحت سلطة القانون، كما كان الوضع في السابق قبل إنشاء هذه الهيئات الذي يجمع الأردنيين على رفضها وعدم الضرورة لوجودها.
كما أن الإصلاح الإداري يجب أن تكون من أولوياته حسن اختيار القيادات الإدارية التي تعرف ماذا يريد الأردنيين ضمن القانون، وليس قيادات حالمة تأتي بنظريات من خارج الحدود لا علاقة لها بطبيعة الأردن والأردنيين وظروف الساحة الأردنية تحاول تطبيقها على الساحة الوطنية، فهذا أمر عانينا منه كثيرا في العقدين الأخيرين.
ومن أهم أبواب الإصلاح الإداري أيضا إغلاق الباب بالكامل أمام الواسطة والمحسوبية اللتين أرهقتا الشعب الأردني وتم القضاء من خلالهما على فرص الشباب وطموحاتهم وأحلاهم، فلا يجوز أن يكون قد مضى على تخرج شاب عشرات السنوات "وهؤلاء بالآلاف" وما زال يبحث عن وظيفة سواء بالقطاع العام والخاص دون نتيجة. في المقابل، خريج آخر جديد لم يمض على تخرجه أسابيع قليلة يجد وظيفته تنتظره وكثيرا ما يكون غير كفء لها. وهذه العلة هي السبب الأساسي في إيجاد جو خصب من الاحتقان وكثير من الأحيان الكراهية والغضب.
هذه أبواب تشكل الأساس في الإصلاح الإداري، فإذا تجاوزتها اللجنة الحكومية المشكلة مؤخرا، فإن عملها لن يكون له نتيجة ملموسة تنعكس على الناس والجو العام في البلاد.
لا شك أن أمام أعضاء هذه اللجنة مهمة صعبة ومعقدة، فالإدارة لدينا تعاني من خلل يصل في كثير من جوانبه إلى درجة الانهيار، فإذا نجحوا في مهمتهم، يكونوا قد أسسوا بالفعل ليس فقط لإصلاح إداري فعلي، بل لإصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي حقيقي بعيدا عن التنظير والمعادلات الغريبة والهروب إلى الأمام الذي لا يؤدي إلا إلى تعميق المشكلة وترسيخها.