facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الفنُ المدنَّس


د. صباح حراحشة
25-12-2021 12:46 PM

الفنان إنسانٌ مرهفُ الإحساس، وهذا ما يميزه عن بقية البشر. هو عندما يرسم ينقلُ إلينا صورةً شكّلها عقلُه نتيجةً لمشاعرَ يعيشها، وهو عندما يكتبُ شعرا يجرّدُ ذاتَه من غِطائِها ويقدُّمها شفافةً بين يدي قصيدة. الموسيقيُّ إنسانٌ خلاق يبتكرُ من مجموعةٍ من الأصوات نغما قادرا على حملِنا فوقَ الغيوم أو إغراقِنا في في بحارٍ بلا قرار، أما القاصُّ فهو ذلك الذي يرى ويشعرُ ويعيشُ داخل جميع شخصياتِ قصته فيختبرُ صراعاتِها وهمَساتِها ثم يسردها لنا.

الموهبةُ سُمّيت بهذا الاسم لأنها هبةٌ وهبها ربُ الكون لبعضنا، ولكنها لا يمكن أن تتحولَ إلى إبداع لو جردناها من المشاعر المتدفقة التي تغمرُ الموهوبَ في لحظاتِ التجلّي ليهدينا هو بدورِهِ بعضا مما وهبه الله.

في كل متاحف العالم تتجلى الحضارةُ الإنسانية بكل صورها، ويتربعُ الفنُ على قمةِ الرقي والأناقة، فأنت تقف مشدوها أمام لوحةٍ تجذبُك داخلها وتشدُّك لأدقِّ التفاصيل، بينما يحتارُ عقلُك أمام نحتٍ رخامي يكادُ ينطقُ من شدةِ الإتقان. تُبنى المتاحفُ والمعابدُ بطريقةٍ عملاقة، فنشعرُ ونحن في حضرتِها بتواضعٍ شديد، كيف لا ونحن أمام هذه الهالةِ من العظمة والإبداع!

العالمُ المتحضّر يحترمُ الفن بكل أشكاله، لذلك تجده متجسدا في كل تفاصيل الحياة؛ في جمالِ المباني والشوارع؛ في فخامةِ الجامعات والمكتبات؛ في هيبةِ المحاكم والبرلمانات. المسرحُ في العالم المتحضر مكانٌ ساحر، مجهزٌ بكل الأدوات التي تعملُ بتناغم تام مع النص والممثلين لتخلق مشاهدا تحاكي الحقيقة، متقنة، بل ومدهشة أيضا.

لم نسمع أن فناني العالم يتوبون عن الفن فيعتزلون، لأن أسباب الاعتزال عندهم مختلفة وليست التوبةُ واحدةً منها، فالفنُ خارج منطقتنا العجيبة ليس ذنبا يقترفُه الإنسان، والموهبةُ ليست لعنة على الموهوب أن يتخلصَ منها وإلا فإنها ستهوي به إلى جهنم وبئس المصير، بل هي ميزةٌ قد تصلُ بصاحبها نحو العالمية وتكسبه حبَّ الناس وإعجابَهم وإحترامَهم.

في بلادِنا، بلادِ العجائب، يُعتَبرُ الفنُ خطيئة ومعصية وذنب يوجبُ التوبةَ والتطهرَ والاستغفار؛ فالرسمُ والنحتُ حرامٌ وصناعةُ أصنام.

الموسيقى والغناء أصواتٌ منكرة سيُعذّب عليها سمعُنا يوم القيامة. الشِعرُ كذبٌ وغواية، أما التمثيل والمسرح فهما هرطقات وسخافات وفسق. الجمالُ ممنوعٌ بكل أشكاله؛ مكروه، منبوذٌ ومحرم، لذلك حُرِمنا الجمالَ في كل شيء؛ مدننا؛ شوارعنا؛ أبنيتنا؛ حدائقنا... وحتى لو وُجِد الجمالُ في شيء فإننا نعاقبُه ونؤذيه بالأوساخ والقاذورات والتخريب والتكسير. ماذا نريد وكيف وصلنا إلى ما نحن فيه الآن؟ ولماذا نجد التصفيق والتشجيع لقتل المواهب ودفنها؟ لماذا نفتي بتحريم الجمال؟ ولماذا نرحب بالقسوةِ والتجرّدِ من المشاعر الإنسانية التي خلقها الله وميّزَ بها الإنسان عن سائر مخلوقاته؟

لا يمكن أن نبقى نحوم حولَ المشاكلِ دون أن نلامسَها ونتجرأ على تفكيكها والبحث عن جذورها وأسبابها. لماذا نلوم فنانا مرهفا إذا قُتِل داخله كل شعور ليستحوذ عليه فقط الشعور بالذنب، فهذا الشعور لم يأت من فراغ، بل هو نتاج خطاب أيديولوجي متطرف يرتدي عباءةً دينيةً ليُحكِمَ تأثيره على العقول، ولكن الغريب في الأمر حجم استجابة الناس لأي خطابٍ متطرف وحجم ترحيبهم به وكأنه ينسجمُ مع طبيعتهم ويتوافق معها، مقابل حجم رفضهم للخطاب العقلاني الذي يطالب بالتفكير في الأمور ونبذها أو الترحيب بها على أساسٍ عقلاني ومنطقي.

الفنُ بحد ذاته ليس حراما، بل هو هبة من هبات الله على البشر، والفنانون كغيرهم من الناس قد يستخدمون ما وهبهم الله في معصيته وقد يوظفونه في طاعته، تماما كما يمكن للطبيب أن يعالج المرضى أو يستغل ضعفهم، وكما يمكن للمعلم أن يؤدي الأمانة أو يخونَ ثقتنا به. كل مهاراتنا هي أدوات ونحن نطوّعُها كما نشاء، في الخير أو الشر، ليس الذنبُ ذنب الأداة بل هو ذنب من يمتلك الأداة.
الفنُ رسالة، حضارة ورقي، فلا تجعلوا منه شيئا مدنسا.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :