من بين شعوب الأرض جميعا، نحن الأكثر تقصيرا في حق لغتنا، فيما اللغة لدى جميع الأمم عنوان هويتهم وثقافتهم وحضارتهم. ولولا أن العربية لغة القرآن الكريم، الذي تعهد الله عز وجل بحفظه، لكانت في وضع يرثى له بفعل أصحابها، والذين ما قدروها حق قدرها في زمانهم هذا، رغم أنها خالدة بعطائها، وكما قال فيها أمير الشعراء، أحمد شوقي: “إنّ الّذي ملأ اللّغات محاسنًا … جعل الجمال وسرّه في الضّاد”.
وبعيدا عن لغة الحسرة لما تعانيه العربية من عقوق أبنائها وبناتها، ولنا في سجالات ساحات التواصل الاجتماعي واستخدام المعظم للغة الإنجليزية مثالا، فإن التفكير بإيجابية، ولكل مجتهد نصيب، يحتم علينا الدعوة إلى جهد عربي خالص على مستوى الجامعة العربية، لإطلاق مشروع شامل يكون هدفه إعادة اللغة العربية إلى مكانتها التي تستحق. فإذا كانت هذه الجامعة، وما هي بجامعة في عيون الكثيرين للأسف، قد فشلت تاريخيا في توحيد كلمة العرب سياسيا واقتصاديا وحتى ثقافيا، فلعل التفافنا حول لغتنا يكون المدخل إلى وحدة العرب في كلمتهم، بداية من حفظ هذه الكلمة بأن تكون عربية الهوى والفكر والممارسة.
وهنا، فالضرورة تحتم البناء على جميع الجهود العربية في هذا المضمار، ولنا مثال في “إعلان الإمارات للغة العربية”، الذي وقعه الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، في دبي قبل أيام، ضمن أعمال أول قمة للغة العربية تنظمها وزارة الثقافة والشباب الإماراتية. ولعل هذا الإعلان، والذي جاء والبشرية تحتفل باليوم العالمي للغة العربية، يشكل نقطة الانطلاق لما هو أشمل على مستوى العرب جميعا.
ولتكن البداية بتشكيل لجنة تضم وزراء الثقافة العرب، يكون هدفها الخروج بمشروع ثقافي حضاري شامل مع قرارات عملية قابلة للتطبيق، لتكون العربية الحاضرة الوحيدة بلا منازع في جميع شؤون الحياة، كبرت أم صغرت، على مستوى الفرد والأسرة والدولة، وحتى في تواصلنا مع العالم.
قد يشكك البعض في هذا الطرح، مع أنه جامع، وقد يتندر عليه آخرون، لكن المسؤولية التاريخية تحتم علينا القيام بذلك، في زمن نرى فيه العرب فرقا وأحزابا، ولا نرى إلا في العربية مخرجا لأزمة هويتنا، وهي متشعبة ومعقدة كثيرا.
ومن أهم ما علينا فعله في هذا المضمار إطلاق جهد مؤسسي تلو الآخر لتعزيز المحتوى العربي في منصات البنية الرقمية المعرفية العالمية. وهذا بحد ذاته مجاراة ناجحة لثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والذكاء الاصطناعي في العالم بطريقة تحمي وجودنا وتنشر مساهماتنا في مسيرة البشرية، والتي يشهد الماضي لنا بإنجازات عظيمة فيها في مختلف حقول العلم والمعرفة.
ستظل العربية همزة الوصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، وستبقى محفوظة بحفظ الله، سبحانه وتعالى، للقرآن الكريم ولغته العربية، إلا أن هذا لا يجب أن يكون سببا لتقاعسنا عن خدمتها، بل محركا لحمايتها ونشرها في العالم.
ولكل من يرى اللغة العربية عاجزة عن مسايرة التقدم العلمي والمعرفي العالمي، فإن عليه أن يقرأ قول شاعر النيل، حافظ إبراهيم: “وَسِعتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَةً … وَما ضِقتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ … فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ … وَتَنسيقِ أَسماءٍ لِمُختَرَعاتِ … أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ … فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي”. فهل من مدافع غيور مخلص عن العربية؟.
(الغد)