يصبح الدمع في عينيّ، كما غيمة في السماء حبَسَت دموعها عن وجنة الأرض، عندما أسمع عربياً يتحدث بغير لغته، مع ابن اللغة التي تنطق بها أمّه. أشعر أن هذا الكائن قد فقد نجمته، بل إن أحداً قد دعا دعوة شريرة على أبيه، وقال ما قالته تلك العجوز لرسول حمزاتوف: ليحرِم الله أولادك اللغة التي تتكلم بها أمهم، أو: ليحرم الله أطفالك مَن يستطيع تعليمهم اللغة. مثل هؤلاء تغضب عليهم لغتهم الأم، وليس هناك ألعن من غضب الأم على ولدها، غضب يجعل من يستمع إليك، يفهم كلماتك على غير معناها، ولا يتفق قصدك مع فهم الآخرين.
اللغة روح، لا تفقد روحك بيدك، لا تنتحر. لغات العالم - كما قال حمزاتوف - كالنجوم في السماء. هل تسعى إلى تكوين نجمة ضخمة تغطي نصف السماء من النجوم الصغيرة الكثيرة، لا تفعل. قال: الشمس كفيلة بذلك. لندع النجوم تتلألأ هي الأخرى، ولتكن لكل إنسان نجمة.
نجمتي هي العربية، لا أبحث عن نجمة أخرى، ولا أحسد الشعوب الأخرى على نجومها، ولا أسعى وأنا أتباهى بنجمتي، أن أقلل من جمال نجوم الآخرين، لكني لا أسمح لأحد أن يمسّ نجمتي بسوء. نجمتي عمود ضيائي، هي التي تنير لي الطريق، وهي التي استخدم مفرداتها في أحاديث الغزل. كيف لك أن تجيد التعبير عن حبك لامرأة بلغة الآخرين. قد تفعل، ولكن حبك منقوص فاقد للروح.
راقت لي مقالة لسمو الأمير الحسن بن طلال نشرها قبل أيام حول «اللغة العربية واستئناف مسيرتنا الحضارية»، عندما قال إن علاقة جدلية تربط بين الفكر واللغة، في إشارة إلى ما ذهب إليه فلاسفة من أن الفكر يصنع اللغة، وأن اللغة تصنع الفكر، وأن جمود الفكر يعطل نمو اللغة وتطورها، وأن لا بد لكل لغة أن تتطور، لكي تعبر عن انشغالات أهلها، وآدميتهم، وتطلعاتهم الفكرية.
وراق لي قول الأمير عندما قال إن القرآن الكريم ألقى على اللغة العربية ثوب الخلود، فكان حفظ اللغة من حفظ الله لكتابه، والإشارة إلى انسجام كتاب الله بين بلاغة الأقوال وحسن الأعمال. لذلك قيل: زِن الكلمة أولاً، فالبعض يتكلم، ليس لأن لديه فكراً يود التعبير عنه أو البوح به، ولكن لأن لسانه يحكّه كما قال أحدهم، أو لسبب آخر، هو فقط الذي يعرف الإجابة عليه، وهذا ما يطلِق عليه أهل الكرك اسم «الهذرمة»، وهي مفردة عربية بليغة، تعني الإسراع في الشيء وعدم تدبّره، والهذرمة في الكلام تعني الخلط فيه. أما أن تكون بليغاً في القول، وسفيهاً في الفعل، فلا بك، ولا بِقَولِك.
يقول الدكتور إبراهيم السعافين: يجب أن تعود لغة العلم والفكر والإدارة، تتجدّد بها الحياة، والهوية، ويتجذّر بها الوجود. وأنا أقول: حافظوا على نجمتكم !
(الدستور)