زعزعة فخ المديونية باستشراف فضاء الاستثمار
د . خالد الوزني
22-12-2021 01:00 AM
فخ المديونية تقع فيه الدول حينما تستدين، وخاصة من الخارج، لتغطية نفقات جارية، أو تغطية عجز مالي غير استثماري، ومن مصادر تجارية؛ أي عبر البنوك العالمية، أو المؤسسات الدولية، وخاصة التجارية، أو عبر ما يُسمّى سندات الخزينة العالمية، أو ما يُسمّى أحياناً سندات اليورو بوند.
وجميع القنوات السابقة هي إرهاصات مديونية خطيرة، من حيث المصدر، ومن حيث السبب، أو المُسبب. فمصدرها تجاري، لن يقبل الشطب أو المبادلة باستثمارات، ولن يقبل الجدولة دون تكاليف إضافية مُرهقة. فخ المديونية الحقيقي تقع فيه الدول حينما تستمر ولسنوات عديدة بالاستدانة من مصادر تجارية ولأسباب تتعلق بنفقات جارية، ذلك أنَّ تلك الدول لم تعد قادرة على تمويل جزء مهم من عملياتها اليومية من جهة، ولم يعد لديها مصادر تمويل ذاتية من استثماراتها العامة، أو من توسعة اقتصادها وما يولده ذلك من إيرادات عامة ناتجة عن توسيع القاعدة الضريبية عبر استثمارات جديدة، وما يستتبعه ذلك من وظائف جديدة ودافعي ضرائب جدد من جهة أخرى.
حينما تقع الدول في ذلك الفخ يصبح أمر دفع مستحقات المديونية، من أصل الدين وخدمته، من الصعوبة بمكان ما لم يتعهد أحد؛ كفيل وفاء، بدفع ذلك عنها عبر المساعدات والمِنح، وكلاهما ينطوي على تكلفة غير مالية مرتفعة للغاية.
وإن شحت تلك المصادر، غالية التكاليف، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، فلن تنفع عمليات الإصلاح الاقتصادي المعهودة بما تحويه من وصفات إصلاحية مريرة الطعم والتذوق، تؤثر على القوة الشرائية ودخول أصحاب الدخول المنخفضة والمتوسطة.
الشاهد مما سبق، أنَّ على صنّاع القرار في الدول المتجهة نحو فخ المديونية أو الواقعة فيه، أن يلجأوا إلى اجتراح حلول غير تقليدية، أو أن يقفزوا خارج الصندوق لكي يصلوا إلى حلول غير نمطية، ضمن برنامج إصلاح مالي حقيقي، يضمن عدم تكرار التجربة المريرة. وهنا تأتي أهمية إدارة أصول الدولة بطريقة تؤدي إلى العودة لتوليد إيرادات عامة ذاتية ومضطردة.
ولعلَّ ذلك يقود إلى أهمية حصر مجموعة من الاستثمارات المشتركة الكبرى التي يمكنها أن تدرَّ الدخل على البلاد بشكل مضطرد يضمن الحفاظ على الأصول العامة وليس بيعها، أو التصرُّف بها من جهة، ويحقق التخلص من المديونية العسيرة بشكل تدريجي من جهة ثانية. والمطروح أمام تلك الدول، أن تلجأ إلى تكوين محفظة لمديونيتها، والطلب من الدائنين تحديد سعر شراء آنيٍّ للمديونية بخصومات مجزية عبر فريق مفاوض متخصص، ومن ثمَّ تجميع ذلك كله أمام مجموعة من المستثمرين العالميين في مجال مشاريع الشراكة، وهم متواجدون في السوق العالمية عبر الصناديق السيادية، ومجموعة من الدول ذات الفائض الاقتصادي مثل الصين، وروسيا، والنرويج، وبعض الدول العربية. وفي مقابل ذلك على الدول الواقعة في فخ المديونية أن تعدَّ حقيبة متنوعة من الاستثمارات الكبرى في مجالات الطاقة، والمياه، والمواصلات، والاتصالات، والصناعات المتخصصة، والمشاريع الزراعية الكبرى، وحتى مشاريع الخدمات في المجال الزراعي والسياحي واللوجستي، وعرض تلك المشاريع على المستثمرين المستهدفين، بحيث يقوم المستثمر المعني بشراء مديونية الدولة من أحد المصادر، أو من أكثر من مصدر، ومن ثمَّ مبادلة المقابل لذلك بحصص في استثمارات وطنية، ممولة بعملة محلية، ضمن اهتمامات ذلك المستثمر العالمي.
أما العوائد من ذلك على الدولة فهي متعددة، فمن ناحية تتخلص الدولة من عبء المديونية غير المُنتجة، شريطة وجود هندسة مالية حقيقية تضمن عدم التكرار، ومن ناحية ثانية، تدخل الدولة في استثمارات نوعية تدر عليها الدخل، وتولد لديها الوظائف، وتحول العديد من العاطلين عن العمل إلى دافعي ضرائب. ومن ناحية ثالثة، تتحول الدولة من فخ المديونية إلى فضاء التنمية المتوازنة عبر مشاريع تغطي كافة مناطقها، وتستغل كافة مواردها الطبيعية والبشرية. وختاماً، فإنَّ الاستشراف والرشاقة في هذا النهج يعتمد على ثلاثة عناصر.
الأول: خطة حقيقية تحصر المشاريع المستهدفة للشراكة، وتقوم بدراستها ضمن منهجية جدوى اقتصادية ومالية واضحة ومُربحة تكون جاذبة ومستقطبة للمستثمرين الجادين.
والعنصر الثاني: فريق عمل استشرافي رشيق وخَلّاق Foresighted Disruptive Agile Team يستطيع تحديد المشاريع القادرة على فتح شهية المستثمرين، والمديونية التي يجب شراؤها من جهة، وقادر على التفاوض بمهنية وشفافية عالية على شرائها من جهة ثانية.
والعنصر الثالث والأهم: فريق عمل خَلّاق قادر على النفاذ إلى السوق العالمي للاستثمارات، ومتمكن بمهنية عالية من تسويق وجذب المستهدفين منه، وهي عملية معقدة وليست سهلة، ولكنها ممكنة وقابلة للتطبيق وللوصول إلى النتائج، إن تمَّ اختيار الفريق القادر على العمل عليها.
الدول الواقعة في فخ المديونية لا يمكنها أن تبقى صامتة تنتظر الأسوأ في المستقبل، ولا يمكن للمعنين من صنّاع القرار فيها أن يعولوا على ألّا يكونوا هناك حينما تستحق الديون وتقع الدول في المحظور.