هناك ثلاثة أنواع من الناس حسب ما يرى «تريماغاسي»: من هُم في الأعلى، ومن هُم في الأسفل، ومن يسقطون. قال ذلك للشاب «غورينغ» في أول مرافقته له في الطابق الثامن والأربعين من الحفرة، فالأكل يعتمد على المستوى الذي تكون فيه من بين مستويات يزيد عددها في تقدير «تريماغاسي»، عن 132 طابقاً، حيث عاش يوماً في مستوى هابط يشحُّ فيه الطعام.
ويبدو أن لهاث المستهلكين من أغنياء، هرعوا إلى الأسواق لشراء كل شيء من محلات التموين في الغرب، مع بدايات قدوم جائحة كورونا، هو ما دفع بالكاتبين «ديفيد ديسولا»، و»بيدرو ريفيرو» إلى كتابة قصة أخرجها الإسباني «جالدير جازتيلو» في فيلم أُنتج عام 2020. أقول هرعوا لشراء كل شيء، وليس كل شيء يحتاجونه، لم يتركوا لغيرهم فرصة للشراء. فقط لأنهم يملكون مالاً يشتري كل شيء، لم يفكروا لحظة في أن يتركوا وراءهم شيئاً من طعام لغيرهم.
أدى ضغط هائل وُضع فيه البشر في حفرة هي عبارة عن برج شاهق كثير الطوابق، تتدلى من وسطة مصطبة تحمل كميات وفيرة من الطعام، تبدأ بالطابق الأول في أعلى البرج، وتنتهي بعدد غير منظور من طوابق لا يصل إليها من الطعام شيئاً حتى العظم، أن يأكل الأخ لحم أخيه حياً، كما فعل «تريماغاسي» في طابق سفلي من الحفرة ذات يوم جوع مجنون.
وفيما حمل الشاب «غورينغ» معه كتاباً، حمل «تريماغاسي» سكيناً يزداد نصله حدة، كلما تم استخدامه. لكلٍّ سلاحه في هذه الحياة، ولكل فهمه، ومنطقه، واستعداده للخضوع لمُفترِسَة إما أن تأكل أو تؤكل. لا تنادي على من هُم في الأعلى، لأنهم لن ينصتوا إليك، ولا تنادي على من هُم في الأسفل، لأنهم بطبيعة الحال دونك. ستأكل بقايا طعام غيرك، ستأكل رغم علمك أنهم بالوا عليه بعد أن أخذوا منه حاجتهم، وقبل نزول منصة الطعام إليك، وأنت أيضاً ستفعل ما يفعلون، تبصُق على الطعام، أو تبول عليه قبل نزول المنصة إلى مستوى دون مستواك.
كان «تريماغاسي» على ثقة أنهم يفعلون ما يفعل، وهو على ثقة أن أؤلئك الذين يعيشون في جوع ومعاناة في طوابق سفلية، سيفعلون نفس الفعل، لو أنهم انتقلوا إلى طوابق عليا يكثر فيها الطعام، وهو يرى أن من هُم في الأعلى «أوغاد» بطبيعة الحال، ولكن من هُم في الاسفل، سيصبحون أوغاداً إذا انتقلوا إلى طوابق عليا. حمل سكيناً من نوع «ساموراي بلَس»، لكنه قُتل على يد «ميهارو» التي كانت تمارس فعل القتل، لتحظى بفرصة للنزول إلى الطوابق السفلى بحثاً عن ابنتها، مات وهو يحاول أن يقطع لحم «غورينغ» بعد أن هدّه الجوع، أنقذته المرأة لأنه شعر يوماً بالخوف عليها.
يبدو أن كتاب «غورينغ» كان منجاته من سكين «تريماغاسي»، ويبدو أن السكين لا يحمي صاحبه من القتل، بل يحفز آخرين على معاقبة روحه الملوثة، ويموت بسكين يحقق العدالة على طريقة غيره، فيؤكل. الأكل في الأعلى كثير، لكن الناس هناك لا يتأملون، لا أمل لديهم في شيء، وخيالهم معطل تماماً.
أليست الكرة الأرضية حفرة كبيرة. هل تُسمع صرخات الجياع. صرخات من يسقطون بعد أن قُدّر لهم أن يعيشوا في مستويات لا طعام فيها، لا يَترك فيها الغني فرصة للفقير ليأكل من بقايا البقايا. هل المستوى 333 الذي وصل إليه «بهارات» و»غورينغ» في القاع، أدنى المستويات، أم أن القاع أعمق من أن يدركه البشر، كأنه قابل للانحدار بهم إلى مستويات أدنى من قيعان أجدادهم.
أخذ «غورينغ» بحكمة حكيم أشار عليه بالتوجه إلى الطوابق السفلى، لإقناعهم بأن يأخذوا كفايتهم من الطعام، لإنقاذ أرواح يتهددها الجوع في طوابق أخرى، وأن لا يتوجه إلى المترفين، لأن لغته ستكون غريبة عليهم، أما الذين ذاقوا مرارة الجوع، سيعرفون نوع الألم الذي يتحدث عنه، فمن جرب الكي لا ينسى مواجعه، ومن رأى السُّمّ لا يشقى كمن شرباً. أليس هذا ما قاله نزار. الجوع يجلب الجنون، والفقر آفة الآفات، والجشع صفة من صفات البشر.
عَبَر في حياتي رجل كان يرفض أن يتصدق ببقايا الطعام، ويردد: «إذا أردت أن تجود على أحباب الله، فجُد بأفضل ما لديك».
حملت ابنة «ميهارو» «الرسالة»، وصعدت إلى الطابق العلوي، علّ جيلا عرف يوماً معنى الجوع، أن يلتفت إلى من هُم في الأسفل. حنانيك، وقد وصلت إليك. لا تقدّم من خير ربك عليك لأخيك البقايا !
(الدستور)