بالرغم من التحوّلات "الشرسة" والتطورات "الملعونة" التي مرّت بها منطقتنا العربية بُعيد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وبالرغم من أن رسومات "الدولة" قد ترنّحت بين التكوين الداخلي غير الواعي وبين التزوير الخارجي الأفّاق، بالرغم من ذلك كلّه فإن الدولة الأردنية قد جاءت على غير معظم هذه المقاييس مع ما قيل إنها جاءت بإرادة القوّة الدولية لتكون"دولة دور".
عندما بدأ التفكير الثوري يسيطر على المنطقة بقيادة مبادئ الثورة العربية الكبرى، جاءتنا التهديدات من كل حدب وصوب، كان أخطرها وعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو اللذين جاءا وشرق الأردن تحت الانتداب البريطاني. واستطاع الملك عبدالله الأوّل أن يُخرج البلاد من براثن المخطط الصهيوني الذي أراد أن يرث الضفة الشرقية للنهر كما ورث بعضاً من ضفته الغربية.
وعلى قياس نظرية العقد الاجتماعي، توافقت القيادة مع ناس "شرق الأردن" الذين طالبوا بالهاشمية أن تقود مسيرتهم. واستمر بناء الدولة بالملك طلال صاحب الدستور وبالحسين الباني إلى أن وصلنا بكل أمان إلى حكم الملك المعزز عبدالله الثاني.
بهذه الكيفيّة فهم الأردنيون معنى"الدولة" القائمة على التضمينية وهي المشاركة الكاملة بين الحاكم والمحكوم. وانفجرت في كل نواحي الفكر السياسي مذاهب وقيم ومبادئ تدور في فلك"الأبوّة" غير المسبوقة في مفهوم الحكم. وأقمنا سرادقنا المجدولة من نياط القلب حول الخيمة الهاشمية التي رأت في الحاكم خادماً أمينا للأّمة لا ينام حتى تنتظم أنفاس أصغر طفل في الأردن.
وبسبب هذا الفهم فإننا رفضنا كل محاولات المسّ بالحقوق العامّة، وتجرأنا على مقاومة كل من يحاول التطاول علينا سواء كان قادماً من الخارج أم من الداخل. واستطعنا أن نقول كلمتنا بكل جرأة، وأن نُسقط كل تطاول على تلك المكاسب التي حققتها لنا مؤسسة العرش، كمؤسسة قرأت ذلك العقد الاجتماعي بكل توازن وصدق وأمانة. ومن جانبنا نحن "كمواطنين" وجدنا أنفسنا حامين للنظام، ليس محبة وولاء له فقط، ولكن لأننا خَبِرْنا كل التجارب التي عاشتها الأقطار حولنا فجمعنا عيدانها فكنّا أصلبها عوداً، وأصعبها مكسراً، فرضينا بما تحقق لنا كل الرضا.
نسوق ذلك كله لأننا بتنا نسمع في الفترات الأخيرة مقولات تصل في حدّها الأدنى إلى التلويح بعودة الأحكام العرفية، حيث بدأ الخطاب السياسي الاجتماعي الداخلي يتسم بالتهديد والوعيد، وغابت عن كثير من أجزائه تلك الحميميّة التي عشناها ولا نزال تحت ولاية الفهم الهاشمي لمعنى"الدولة" التي ترفض أن تتحول " المسؤولية" إلى منابع للإستقواء، أو أن يُستغل ولاءنا لمؤسسة العرش للتطاول علينا، فهذا أمر دونه خرط القتاد، خاصة وأننا نعلم أن هناك محاولات غير أمينة تريدنا أن نحيد عن الدرب، وتريد أن تشكك في بنود عقدنا الاجتماعي الطاهر، وهي تعلم أن الأردنيين يؤمنون بكل صدق أن الأردن فعلاً هو دولة "هاشمية" بامتياز، وأن فهمنا للمواطنة نابع، أولاً وأخيراً، من تحت تلك العباءة التي جلس في ظلّها بعض من آل البيت وامتدت كراماتها إلينا.
لابد أن يفهم سكان المكاتب الرسمية أنهم جنود الملك وأنهم يجب أن يمتثلوا لكل التفاصيل التي يريدها، وأن يصدعوا بما يأمر، وهذا ليس تلوّناً منّا ولكن لأننا نسجل كل يوم لسيدنا مواقف لا أطهر ولا أنقى. أما أن يذهبوا بنا إلى غرف القهر فهذا بعيد عن أسنانهم لأننا مع الملك.
دعونا نعود عن الخطاب السياسي الحاد ونرجع للأخذ بالخطاب الجاد.
والله وراء القصد.