أولاً: سميك والدولة العميقة.
أما بعد، فقد بلغ السيل الزبى، ولم يعد الصمت ذهبياً أو فضياً أو حتى خشبياً، بعدما وصل حجم السيولة والفوضى في الافكار والطروحات السياسية المباشرة أو الضمنية حد التشكيك في الاردن مبدأً ومنشأً وكينونة سياسيةً ، وديمومة لما بعد المئوية.
كانت البداية مقال السيد حسن اسميك، الذي نشرته مجلة السياسة الخارجية foreign policy والذي جوهره اختصار جمود عملية السلام الفلسطيني الاسرائيلي باقتراح وحدة اردنية فلسطينية، الأمر الذي أثار زوبعة من ردود الأفعال الناقدة والمشككة بدوافع الكاتب وخلفياته.
لم أكن أنوي الكتابة بهذا الشأن لسببين، لأني لم يسبق لي أن سمعت بإسم الكاتب ( ولم أَلُمْ نفسي على ذلك، حيث ظننت انه مليارديراً متطفلاً على السياسة) ، والسبب الثاني تعلمته خلال عملي الدبلوماسي من ضرورة التمييز بين مقالات يكتبها البعض استجداءً ليتم نقدها او الرد عليها لإعطاء صاحبها بعض الشهرة التي يفتقر اليها، أو أن يكون مضمونها ضعيفاً لدرجة عدم استحقاق الرد، ومن جانبٍ آخر، المقالات لاصحاب رأي أو سياسيين لهم ثقلهم ومن الضروري الرد على طروحاتهم إن كانت تناولت المصالح الوطنية لبلدي. وأعترف أني عدت ووضعت نفسي أمام اختبار اللوم بعدما اكتشفت مجموعة من المقالات للسيد اسميك منشورة في جريدة النهار وهي متنوعة المواضيع وبمستوىً رفيع، ولن أحرج أصدقائي في جريدة النهار للبحث فيما اذا كان كتبها السيد اسميك أم استكتبها، ولذلك سأخرج من تأثيرات نظرية المؤامرة، وسأعتبر أن السيد اسميك فكّر بصوت مرتفع مطبوع، ولم يكن موفقاً في مضمون الطرح، والأهم، في توقيته.
لذلك لم أكن أنوي المشاركة مع اصحاب المعالي والسعادة الذين تفضلوا بالرد على مضمون مقالة اسميك دفاعاً عن الاردن وعن فلسطين في آنٍ واحد، وكانت فكرتي أن أرجئ أي كتابة، لا لتكون ردَ فعلٍ لمقالٍ ما، فالأردن ليس بحاجة الى ذلك الدفاع، فهو دولة عميقة، وكيانٌ سياسي عمره مئة عام، وعضو مؤسس للجامعة العربية، وعضو معترف به في الأمم المتحدة منذ حوالي سبعين عاماً، لذلك فالكتابة يجب أن تستهدف الأجيال الشابة بناة المستقبل، تحصيناً لها من اهداف التشكيك بالوطن الاردني، وذلك تناسقاً مع ما كررت الاشارة اليه مطلع العام، مما ورد في مقالة سمو الامير الحسن بن طلال المعظم، ومقابلة وكالة الانباء الاردنية مع جلالة الملك بمناسبة بدء المئوية الثانية لمملكتنا.
أما ما استفزني ويدفعني للكتابة الآن فهو أن تلك السيولة في ردود الفعل تضمنت مواقف وتفسيرات لا يمكن أن أصفها إلا بالصاعقة، لأنها وردت على لسان مسؤولين رفيعي المستوى ما زلت أجلهم واحترمهم وبعضهم زملاء كرام.
أعترف بأني لست باحثاً أكاديمياً ولكني قرأت الكثير مما كُتب عن مملكتنا، تكويناً واستمرارية، كتابات موضوعية وأخرى تهدف خدمة أغراض سياسية لأطراف إقليمية وفق ظروفٍ زمنية معروفة، وتقديري أن شباب الوطن يستحقون أن يعرفوا أن إمارة شرق الاردن لم تكن سرقة جغرافية من وعد بلفور المشؤوم، كما حلا للبعض وللأسف وصفه، ولا محطة وظيفية لخدمة المشروع الصهيوني، وإنما كانت تحريراً للبذرة القومية الموعودة المسروقة من قبل منتصري الحرب العالمية الاولى، لذلك لم يرَ الملك المؤسس في الاردن دولةً قطرية، وانما نواة الوحدة القومية العربية، الأمر الذي لم يحلُ للبعض، خارج الاقليم وداخله، ولأجل ذلك دفع الملك المؤسس حياته ثمنًا داخل المسجد الأقصى.
وفي تقديري انه لا يحق لأحد أن يرضخ لوقائع مستجدة يصنعها اليمين الإسرائيلي المتطرف وزمرة المستوطنين، تراجعاً وخلافاً لكل أسس الشرعية والاتفاقيات المعقودة بين الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي منذ اتفاق أوسلو عام 1993، ليتكئ على مقولة تمجيد الوحدة بين الشعبين الاردني والفلسطيني منذ عام 1948، متناسين حقيقة ومعنى التفريق بين أن الشعبين رابطة دم وقرب وقربى، في علم الاجتماع، ولكن في السياسة كانت الضفة الغربية أمانة لحين التحرير ، وهذا ما نصت عليه مخرجات مؤتمر أريحا، وقرار البرلمان الاردني في إقرار الوحدة.
واذا كان قرار فك الارتباط مثّل تلبية لحاجة الاشقاء لإعلان دولة فلسطين في قمة الجزائر عام 1988، فإن رفض فكرة الاتحاد الكونفدرالي التي طرحت عام 1996 من جانب اشقائنا كان لها أسبابها التي أدركها الأشقاء وتراجعوا عن الفكرة في حينه، وكنت اتمنى على معالي الوزير والسفير الفلسطيني الصديق نبيل عمرو في معرض رده على مقالة اسميك أن ينوه الى ان طرح فكرة الكونفدرالية كان متزامناً مع وصول نتنياهو للمرة الأولى الى سدة الحكم في اسرائيل، وهو صاحب الفكر المتطرف المدون في مؤلفه والرافض لاتفاق اوسلو وكل مخرجات عملية السلام على المسار الفلسطيني، لذلك بدت فكرة الاتحاد الكونفدرالي وكأنها قارب نجاة لليمين الاسرائيلي وشماعة يرمي عليها كل ما لا يريد ان يقدمه استحقاقاً تعاقدياً مع السلطة الوطنية الفلسطينية، وهذا هو منطق الموقف الاردني الذي نقلته للرئيس عرفات من اخيه جلالة الحسين طيب الله ثراهما، وهو ما نقلته في حينه للرئيس محمود عباس، وهذا الموقف تبناه جلالة الملك عبدالله الثاني ويتضح بين ثنايا لاآت جلالته الثلاث.
وما أشبه اليوم بالأمس، فمختصر الحديث : العلاقة الاردنية الفلسطينية في علم الاجتماع هي علاقة دم واخوة لا انفصام لها، وفي علم السياسة ومع الجغرافيا السياسية غرب النهر: هي علاقة مشروطة بوصول الشقيق الفلسطيني للاستقلال السياسي الناجز المعترف به دولياً، وتوفر الظروف لتحقيق قراره الوطني المستقل. وليس من الحصافة السياسية ان تتبع وتتغير نظرية الواقعية السياسية وفقاً لما يغيّره المستوطنون واليمين الاسرائيلي المتطرف على الأرض.
واذا كانت القاعدة السياسية صحيحة في انك لن تستمتع بالسلام تحت مظلة السلاح، وانما لاقتناع جيرانك بحقك في الوجود، فإن إسرائيل هي من كانت تحتاج الاعتراف منا في معاهدة السلام، ولم يكن ذلك مستحقاً لو لم يتم اتفاق اوسلو مع الشقيق الفلسطيني، وحذار أن تفهم أجيالنا اننا استجدينا الاعتراف بنا من قبل اسرائيل في معاهدة السلام. يدنا كانت العليا في حينه وما زالت. وعندما تصحو سياستنا الاعلامية ستدرك حاجة استهدافنا للرأي العام والناخب الإسرائيلي، ليعرف اين يقوده اليمين المتطرف. وليدرك انه بدون نيل الفلسطينيين حقوقهم العادلة، فإن كل ما حولهم في فلسطين التاريخية وخارجها سيبقى عدواً لهم، يجب ان يدرك الناخب الاسرائيلي أن مجلس النواب الأردني الذي صادق على قانون معاهدة السلام، هو نفسه الذي لا يناقش اعلان نوايا اقتصادي دون ان تكون كل محاور النقاش سياسية بحتة سندها ان إسرائيل نفسها دولة عدوة. واذا ما استمر الناخب الاسرائيلي بخطأ الخيار، فربما نصل الى تحويل اطول حدود لنا غرباً الى ستارٍ حديدي باردٍ، حد التجمد.
ثانياً: الهوية الوطنية الجامعة
لم يجل في خاطري أن تسعين زميلاً في اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية يمثلون وبحق كل الأطياف السياسية من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، وعملوا بذكاء وانتماء صادق ومثابرة لتحقيق ما أُسند إليهم بموجب الرسالة الملكية، يمكن ان يسهو جميعهم عن أن عبارة (( الهوية الوطنية الجامعة )) سيُساءُ تفسيرها وتأويلها، وأكثر من ذلك، البناء عليها بسيناريوهات لا تخلو من أهدافٍ شخصية جانبت الصواب.
قرأت واستمعت لأغلب ما ارتبط بهذه العبارة، وللأسف وصلت بعض التفسيرات للطعن بطريقة مباشرة او غير مباشرة بوحدتنا الوطنية المقدسة، وعندما كنت أحاول اقرأ ايضاً صدى ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي، شعرت بالأسف، ولكن ليس باليأس، فرسالتنا أن نقفز فوق هذه الأفكار السلبية المفتعلة، وواجبنا أن نذكّر ابنائنا واحفادنا بموقف الحسين الباني طيب الله ثراه، بأن لا يكون اصطفافهم إلى جانب أعدائه إلى يوم القيامة، حيث هكذا كان وصف الملك الراحل لمن يطعن في وحدتنا الوطنية.
من المعيب أن يستغل البعض ظروف الاردن الاقتصادية، او الضغوطات الدولية والاقليمية ليرسم خطوطاً جغرافية او ديمغرافية داخل الوطن ،وخطوطاً بين الأصل والمنبت، ولنتذكر بأن المواطن اللاجئ، لا يختلف عن شقيقه في مجتمعنا الا بمسؤولية الدولة للاستمرار في الدفاع عن حقه كلاجئ أمام المجتمع الدولي، ويجب أن نستذكر بعرفان توافق الاردنيين الموحد قبل عقدٍ من الزمان لمنع دخول فوضى (الخريف العربي ) الى بلدنا.
إن التقسيم الإداري للمملكة محافظات وألوية، لا يعني ان تلك دويلات داخل الدولة، وليتذكر ابناء الوطن أننا فعلاً هوية وطنية جامعة، تجمعنا إدارياً أرقامنا الوطنية، وكلنا مسؤول عن المحافظة على وحدة الوطن نتجاوز الجغرافيا الضيقة، ونستذكر قبل الاحتلال إرسال أهل القدس للدكتور يعقوب زيادين رحمه الله الى قبة البرلمان، ومنذ سنوات ارسل اهالي العقبة عمي حازم رحمه الله مرتين الى ذات القبة وهو ابن محافظة الكرك، وسيشرفني ان أدلي بصوتي مستقبلاً لقائمة وطنية اقتنع برسالتها ويرأسها سيدة او رجل من بدو الجنوب، لنخرج من التزام العشيرة الضيق الى مساحة الوطن الأرحب، ولا يمكن لتجربتنا الحزبية ان تنجح مستقبلاً وتزيد من صلابة وطننا إلا إذا ايقنا أننا كلنا اردنيون تحت سقف الدستور والقانون، والتقسيمات لا تعدو ان تزيد عن كونها إدارية لاتفسد انتمائنا الوطني القومي، وانفتاحنا الايجابي على العالم، الذي نرتضيه مع قيادتنا الهاشمية.
ثالثاً: تحديث المنظومة السياسية
مخرجات عمل اللجنة التي أنيط بها شرف تقديم المقترحات، تمت إحالتها من قبل الحكومة الى مجلس الأمة، ولست هنا معني ببحث تفصيلات تلك المخرجات، او ما أضافته الحكومة في اطار نفس الحزمة ،ولكن ارغب بالإشارة الى أمرين
١: الانتقادات التي واجهتها اللجنة، رئاسةً أو بعض أعضائها، وانتقاد مخرجات عمل اللجنة، وسواء كانت هذه الانتقادات موضوعية أو ظالمة، فإنها ساعدت دون أن يدرك اصحابها على توسيع دائرة البحث والاطلاع لدى طيف واسع من أبناء الوطن، إضافة الى نشاطات اعضاء اللجنة المشكورة الذين يستمرون بايضاح جوانب مهمة للمخرجات للراي العام الاردني.
٢: سرٌّ ايجابي، لعملنا في اللجنة لا أجد حرجاً في الإشارة اليه، لأنه بالتحصيل النهائي يؤكد ما ذهبت اليه في اطار هذا المقال.
فمن حيث أشرت الى تنوع خلفيات أعضاء اللجنة، فإن المناقشات في اللجان الست المنبثقة عن اللجنة العامة إضافة إلى اللجنة العامة ذاتها وعلى مدار ثلاث أشهر تخللها مناقشات حادة، وتناقضات في المواقف، ولكن يستحق دولة رئيس اللجنة أن أنصفه، إذ كانت اريحيته وطول نفسه وإيجابية تعامله مع المواقف الحادة، سبباً رئيسياً لدفع جميع الاعضاء الى اتباع منهجية مهمة في الحوار، وهي أن تضع نفسك مكان الطرف المقابل لترى وجهة نظره من زاوية أخرى. وهكذا وصلت اللجنة لأكثر من تسعين بالمئة من مخرجاتها بالتوافق.
ما هي الرسالة التي أرغب بالاشارة اليها؟
إن اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية التي تضمن تشكيلها سيدات وسادة ممثلين لاتجاهات سياسية وفكرية اغلبها متناقض في المنهج، بين تيارات اسلامية ويسارية ماركسية وبعثية وقومية ووسطية اثبتت أن العصف الفكري بين مكوناتها قابلٌ للتحقق وانتاج صورة تتفق ايجابي، والأهم، أن المجتمع السياسي الاردني بكل تناقضات منهجياته السياسية، هو مجتمع مثقف سيسمو دائماً فوق خلافاته من أجل السلم المجتمعي، نعم، اثبتت المعارك الفكرية داخل نقاشات اللجنة ان المجتمع الاردني لن ينزلق الى ما كانت عليه وللأسف حال بعض الدول العربية الشقيقة. وهذه حالة في علم الاجتماع السياسي تستحق البحث من الدارسين المتخصصين.