التحالفات الاجتماعية والاقتصادية وتفكيك النخبة الوطنية الأردنية
سامح المحاريق
17-12-2021 04:19 PM
يستخدم الصحفي أو المعلق من وقت إلى آخر تعبير النخبة الأردنية، وأتوقف عن القراءة بمجرد أن اصطدم بالتعبير لأنه يفضح المشكلة الرئيسية التي نعاني منها، وهي تحديداً تغيب النخبة، فما يوجد لدينا هو صفوة أردنية، وما أوسع الفرق بين الكلمتين.
النخبة تصعد من بين الناس، وداخل حواضنهم الطبيعية في القرى والأحياء، وتكون قريبة في أسلوب معيشتها وتفكيرها من السواد الأعظم من المواطنين، أما الصفوة فتستفيد من التحالفات الاجتماعية والاقتصادية لتفرض نفسها، ويحدث كثيراً أن تتحول النخبة إلى صفوة، ولكن من الصعب أن تتحول الصفوة إلى نخبة.
تشكلت في الأردن نخبة عميقة في فترة الخمسينيات، كانت تتمثل في أوائل الخريجين من النظام التعليمي الوطني المحدود في إمكانياته وقتها، وتحصل كثير من أبناء الأردن على فرصة الدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت، وجامعتي دمشق والقاهرة، ونظراً لحاجة أجهزة الدولة لبيروقراطيين يستطيعون استكمال تأسيس بنيتها، حظي معظمهم على فرصة الصعود السريع في الجهاز الحكومي والمؤسسات الأخرى، ولنأخذ مثلاً وصفي التل، فهو خريج من الجامعة الأمريكية في بيروت في مطلع الأربعينيات، وقتها كانت الجامعة مقراً للقوميين العرب الذين رفضوا من داخل نظامها التغريبي أن ينخرطوا لأداء وظائفهم كأدوات استعمارية، والمستغرب أن قادة ثورة البراق في فلسطين 1929 كانوا خريجين في نفس الجامعة.
بدأت مسيرة التل المهنية في ضريبة الدخل لينتقل بعدها إلى مديرية التوجيه الوطني، ويستكمل مسيرته خلال فترة محدودة، وليتمكن من تشكيل نواة النخبة الأردنية حول مشروعه، وبعد الجيل التأسيسي للنخبة ظهرت مجموعة أخرى واعدة، وأكثر ثورية وتمكناً من أدواتها، فكانت الانطلاقة الحقيقية للدولة الأردنية في الستينيات والسبعينيات مع جيل جديد.
ما الذي حدث بعد ذلك؟
التزاحم الشديد على التعليم الجامعي، وتباطؤ مشروع الدولة في التسعينيات أدى إلى صراع حول الأدوار، وكان أبناء الرعيل الأول من النخبة الأردنية، ممن تلقوا فرص المنح الدراسية والوظائف المرموقة يتجاوزون أي منطق طبيعي في التطور الوظيفي، وعلى العكس من الجيل الأول، فمعظمهم كان أهم مؤهلاته هو شهادة ميلاده، وكانت هذه نهاية النخبة الأردنية التي عاشت لفترة قصيرة من الوقت وكانت نخبة ناشطة وفاعلة.
تجنباً لتوظيف هذه الرؤية في غير موضعها وفهمها على أنها إعلان لبوار الإمكانيات البشرية الأردنية، فالأردنيون الاستثنائيون تمكنوا في فترة ما من العمل على الحصول على فرص في دول الخليج العربي، لتتشكل النخبة الإدارية الأردنية من أشخاص يفهمون ويدركون طبيعة البناء المؤسسي ويمكنهم العمل على القيادة والتحليل والإصلاح والهيلكة، وهذه النخبة شعرت بالمرارة نوعياً، وهي تقدم لدول الخليج العربي خلاصة تجاربها وخبراتها، وتقف غير قادرة على التأثير في الأردن نفسه، أما القطاع الآخر من النخبة الأردنية، وتمثل في المختصين في العلوم من أصحاب الفكر النوعي في مجالات التكنولوجيا والخدمات الطبية فأخذوا يتوزعون في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وبعضهم يتميز غيظاً من الأحوال التي آلت لها التجارب الأردنية في مجالاتهم، والزهد في دعوتهم للمشاركة، وبعضهم على استعداد أن يفعل ذلك طوعاً، ومن غير مقابل.
السنوات الأخيرة كشفت المشكلة في أعمق تجلياتها، فالأردن دولة واجهت وباء الكورونا بكثير من الارتجال والعشوائية، وفي هذه الفترة تراجعت بصورة محرجة في مجال اقتصاد المعرفة والتكنولوجيا، وكانت الخيارات منحصرة في الصفوة بين الجيلين الثاني والثالث من أبناء نخبة الخمسينيات الذين تحولوا إلى صفوة تقف بضرواة ضد إعادة انتاج النخبة الأردنية لأنها لن تجد ببساطة مكاناً لمنافستها، فمن الصعب مثلاً، أن نتحدث عن الاستفادة من الدكتور أحمد الحجي العمري أستاذ الأشعة التداخلية في مستشفى بوسطن للأطفال، وهو الذي تقدم في مسيرته بجهوده الشخصية، في ظل سيطرة عميقة على مفاصل القرار الصحي وتحالف عميقي بين الصفوة والبيروقراطية، حيث تحمل كلاهما مخاوفاً من التنافس على الأدوار وتدخلان تحالفاً وثيقاً من أجل المحافظة على مواقعهما.
النخبة السياسية تعيش مشكلة أكثر عمقاً، فلا منافسين حقيقيين لتحالف الصفوة مع الوجاهات الاجتماعية التقليدية وأصحاب رؤوس الأموال، هذه الفئات تتقاسم الأدوار، وتعرف كيف تحافظ على حصصها، يمكن أن نشهد تغلباً لطرف معين في مرحلة معينة، ولكنها جميعاً تدخل في تحالف مناهض لحياة حزبية حقيقية يمكن أن تقدم وجوهاً جديدة، ولذلك، فمن الطبيعي أن يفتقر مجلس النواب الأردني لأي حراك حقيقي وأحياناً يفتقد تماماً لأي قدرة على تقديم خطاب متماسك، اتفقنا أو اختلفنا معه، لأن الساسة يخرجون من تحالفات قائمة ومكرسة لا تستوعب وجود القادمين الجدد من حياة حزبية صحية وسليمة يمكن أن تكون البوتقة لتغذية نخبة نوعية جديدة.
النقابات بدورها، وبعد تحالفها مع الفئات السابقة، في مفصل احتجاجات الدوار الرابع أخذت تغرق في مشكلاتها الخاصة، وتحمل على عاتقها أعباء الأوضاع الاقتصادية الفئوية التي تتعلق بالقطاعات التي تخدمها، أما الجامعات، فتحولت إلى مؤسسات تقدم شهادات من أجل المكانة الاجتماعية يمكن أن تصلح للزواج ولكنها بالتأكيد لا تصلح لتقديم كوادر تستطيع أن تؤسس محطة لتحلية المياه، وتستمر هذه الحالة في التفاقم وصولاً إلى مرحلة الاستغلاق.
لا نتجنى على بعض أبناء الأسر السياسية، فأحياناً يتضافر التعليم المتميز مع فرصة معايشة المشكلات لينتج أشخاصاً فاعلين يمتلكون الخبرة والشجاعة والقدرة على التأثير، ولكن ذلك يضعنا في حالة من الشح والندرة، ولا يعفيهم مطلقاً، على الرغم من كفاءة بعضهم، من وقوفهم ضد تشكل نخبة وطنية تستطيع أن تحمل الدولة الأردنية في مئويتها الثانية.