أزمة إعلام عربي أم أزمة عقل عربي؟
د.عبدالحكيم الحسبان
16-12-2021 08:31 PM
حظيت قبل أيام بفرصة حضور حلقة نقاشية تحت عنوان: "دور الإعلام في نشر ثقافة حقوق الإنسان وتعزيزها". الحلقة النقاشية شهدتها أروقة معهد الإعلام الأردني الذي حظي بشرف االتأسيس والرعاية علي يدي سمو الأميرة ريم علي، وتناوب على رئاسة هيئة المديرين فيه منذ التأسيس ثلاثة من جيل الرواد في صناعة الإعلام كما في صناعة المشهد الإعلامي الأردني هم على التوالي؛ الراحل الأستاذ نبيل الشريف، والمهندس راضي ألخص، والعين مصطفى حمارنه الذي تولى الموقع منذ أسابيع قليلة.
وأما المحاضر والمحاور فقد كان الأستاذ أنطوان مسرة الذي يعرفه كثير من أشقائنا اللبنانيين ومن العرب بصفته واحدا من أفضل من كتب في موضوعات حقوق الإنسان والدستور والمواطنة في لبنان وفي العالم العربي. فسنوات الدراسة الطويلة في لبنان وفي فرنسا وفي حقول معرفية متعددة من قبيل القانون والحقوق والسوسيولوجيا، إضافة لسنوات العمل الطويلة في قاعات التدريس وفي العمل الميداني جعلت النقاش ينتقل بسلاسة من الكوني إلى المحلي، ومن النظري إلى التجريبي ومن المفاهيمي إلى المعاش.
وفي الحلقة النقاشية، آثرت أن أصمت كي أستمع وكي أراقب وأرقب. فحديث الضيف كان في بنيته وفي شكله ومفرداته بسيطا، ولكنه كان في بعض الأفكار والطروحات وحتى المفاهيم غنيا ومحفزا للعقل والقريحة الفكرية والذهنية. كما أثرت الصمت لأفسح المجال لطلبة المعهد كي يعيشوا أجواء الحوار والإفادة من علم الأستاذ مسرة وخبرته. ولعلي ومن خلال هذه المقالة على "موقع عمون" الموقر اقدم مداخلتي ومساهمتي في النقاش الذي جرى قبل أيام والذي لم تسمح به مساحة الوقت المخصصة للمحاضرة حينئذ.
وأما ردود فعل الحضور من حيث مستوى هضم عناوين المحاضرة ومفاهيمها ومصطلحاتها فقد كان أيضا مادة غنية للتأمل والتفكر والتحليل، وهي ردود فعل تقدم أيضا مادة إثنوغرافية غنية عن العلاقة بين النص كما يقدمه الباحث أو المحاضر، والنص كما يفهمه ويأطره عقل المتلقي أو الجمهور بل ويعيد تشكيله, وكانت لافتة إلى حد كبير تلك الحافزية والجاهزية المتوثبة عند الحضور دوما للحديث عندما تذكر لفظة "عشيرة", بالرغم أن العشيرة لم تكن حاضرة في المحاضرة كمحور ولا حتى كموضوع فرعي بل وردت اللفظة من باب ضرب المثال للشرح والتبسيط. وبالرغم من أن العشيرة كانت موضوعا لرسالتي الماجستير اللتين أنجزتهما في الأردن وفرنسا، كما لرسالة الدكتوراه التي كتبتها في فرنسا إلا أنني أثرت الصمت والاستماع.
وفي الحديث الذي قدمه المحاور أو المحاضر كانت هناك ومضات تتعلق بأزمة حقوق الإنسان، وأزمة المواطنة كما أزمة الإعلام في علاقته بحقوق الإنسان في العالم العربي. الدكتور مسرة وبفعل الأرضية المعرفية الفلسفية والسوسيولوجية التي يقف عليها استحضر بعضا من أساسيات التفكير بقضايا حقوق الإنسان في العالم العربي، وكانت إشارته لافتة لذلك التحول في الدراسات الجامعية من مفهوم الحقوق إلى دراسة القانون وحيث يستبدل مفهوم القانون مفهوم الحقوق.
وبسبب الأرضية الفلسفية الصلبة التي يقف عليها الاستاذ مسرة فقد كان هناك نقاش حول بعض جوانب الأزمة في المشهد الإعلامي عموما وخصوصا تلك المرتبطة بالجوانب المعرفية التي تسود في العالم العربي وتغرق الإعلام في أزماته. ويشير الدكتور مسرة على سبيل المثال إلى لفظة "رأي" التي باتت كلمة مفتاحية في عالم الإعلام في العالم العربي. المفارقة أنه في دراسات المعرفة وسوسيولوجيا أو أنثروبولوجيا المعرفة، فإن الرأي كمفهوم، هو بين المفاهيم الأكثر فقرا على صعيد القيمة العلمية أو المعرفية. وفي حديثه أيضا أشار الدكتور مسرة إلى جملة الفيلسوف الألماني نيتشه حين قال "لا توجد هناك وقائع بل تأويلات". ففي المشهد الإعلامي العربي لم تعد الوقائع هي التي تتحدث، ولم نعد نسمع صوت الوقائع، بل باتت التأويلات هي ما نسمعه، وهي التي تصم الاذان.
في المساهمة التي أود أن أقدمها من على منبر "موقع عمون" وكتعقيب على محاضرة الدكتور مسرة في معهد الإعلام الأردني ربما سيكون من المفيد الاسترسال في تبيان بعضا من جوانب الأزمة في الإعلام العربي وفي مجمل المشهد الإعلامي بمكوناته المختلفة وحيث هناك إعلاميون لهم تكوينهم النفسي والسوسويولوجي والانثربولوجي، وهناك محتوى أعلامي مقروء أو مسموع أو مرئي أنتجه هؤلاء الإعلاميون، وهناك جمهور صحيح أنه متلق ولكنه أيضا مؤثر بل ومنتج للمحتوى الإعلامي، له بناه السوسيولوجية والانثربولوجية والمعرفية.
ولعلي أرغب في هذه المقالة أقتصار نقاشي على جوانب الأزمة في الإعلام والتي قلما يلتفت إليها العاملون في الإعلام والمنتجون للمحتوى الإعلامي. ويتعلق الأمر هنا بتلك البنى المعرفية التي تسود بالعالم العربي، وأعني هنا تلك البنى التي تختص بعمليات التفكير وبفعل التفكر والتفكير. وفي الحديث عن البنى المعرفية، اقصد تحديدا تلك العمليات التي تستغرقها عملية إنتاج المعرفة والأفكار التي تبتدأ بنشاط الحواس الخمس التي تلتقط المعطيات الخام لترسلها للدماغ وحيث هناك تجري عمليات التشخيص والتصنيف والتننميط والمقارنة والاستقراء والاستنباط والاستنتاج ألخ.
أملك الكثير من المعطيات ومن عناصر القوة في المحاججة حين أقول أن أزمة الاعلام في العالم العربي هي في العمق أزمة بني معرفية أي أزمة عقل عربي أكثر منها أزمة أعلام وإعلاميين ومحتوى إعلامي. ففي العالم العربي هناك إعلاميون، وهناك محتوى إعلامي، وهناك جمهور متلق ومستهلك للمادة الإعلامية تختلط عليه معاني المفردات والعمليات المعرفية التالية: البيانات والمعطيات، والتحليل، والتفسير، والتأويل والرأي برغم البرزخ المعرفي الكبير الذي يفصل بين كل واحدة منها. في اللغة الانجليزية هناك بيانات Data ، وهناك تحليل Analysis. وهناك تفسير Interpretation، وهناك التأويل Heurmentics, وهناك الرأي Opinion.
وفي المشهد الاعلامي العربي يختلط مفهوم الخبر بالتحليل بالتفسير بالتأويل بالرأي، وأجزم أن أي تحليل علمي للمشهد الإعلامي من حيث المحتوى ومن حيث المنتجون لهذا المحتوى، كما من حيث المستهلكون لهذه المحتوى أي الجمهور سيكشف أن الخطوط الفاصلة غير واضحة بين الخبر والتحليل والتفسير والتأويل والرأي. وبالمناسبة، فإن أزمة العقل هنا التي تتمظهر في الإعلام، تتمظهر أيضا في عالم الجامعات والاكاديميا والبحث العلمي، فالعقل العربي وبناه المعرفية هي ذاتها في الجامعة، أو في غرفة التحرير الصحفي، أو في عقل جمهور المتلقين الذي يستهلك الخبر الصحفي.
في العقل الاوروبي الغربي الذي عاش تجربة التطور والتحول من العقل الفلسفي إلى العقل العلمي يتعلم الطالب ومنذ الصفوف الاولى في المدرسة وصولا إلى الجامعة التمييز بين مفردتين تشيران إلى حقيقتين هما الموضوع object والذات Subject. ويتعلم الطالب أن كل ما نملكه من معرفة وما ننتجه من أفكار حول أنفسنا وحول الكون، هو نتاج لنشاط الذات، أي مجموع نشاط الحواس والتجارب والذكريات والاهواء التي تختص بشخص ما وتميزه عن الآخرين، وأن نشاط الذات مرتبط بتلك المعطيات التي تلتقطها حواس الذات عن الموضوع وحيث يشير الموضوع إلى كل وجود لشيء مستقل عنا ويقبع خارج ذاتنا. وفي العقل الغربي نشأت ثنائية أن الموضوع تشتبك معه حواسنا، ثم تقوم بارسال ما تلتقطه من مادة خام إلى عقلنا الذي هو معطى ذاتي كي يقوم بالتشخيص والتصنيف والتبويب والاستقراء والتحليل والتأويل ألخ.
في العقل الغربي هناك مدرستان في فهم المعرفة وفي فهم آليات انتاجها، فهناك مدرسة تعلي من شأن نشاط الحواس، وهي تؤمن بالتالي بالتجربة أي بنشاط الحواس الخمس حين تجرب الشيء وحين تصطدم بالموضوع لتلتقط المعطيات الخام، وهناك مدرسة تؤمن بالعقل حين ترسل الحواس المعطيات للدماغ حيث هناك العقل الذي هو مجموع من الملكات والمهارات والافكار والقوانين المنطقية التي قمنا ببنائها. فحواس البشر متشابهة ولكن عقلهم مختلف باختلاف الثقافات التي ينتمون اليها.
وفي العقل الغربي العلمي، هناك تشديد بل وتقديس لضرورة فصل الذات عن الموضوع. بمعنى أن ما تلتقطه حواسنا أي البيانات أو المعطيات هي التي ينبغي أن تقول، وأن السلطة ليست هي للعقل بل هي للحواس وبالتالي التجربة. وأما ما يقوله عقلنا فهو قد يكون تحليلا أو تفسيرا أو تأويلا أو رأيا. وأما الاختلاف ما بين التحليل والتفسير والتأويل والرأي، فهو يتعلق تحديدا بدرجة نشاط الحواس مقارنة بنشاط العقل أي الذات. فكلما كانت البيانات التي تلتقطها الحواس أكثر كلما كانت المعرفة أو الفكرة علمية أكثر، وعليه فكلما هناك تدخل من الذات في انتاج المعرفة كلما انتقلنا من التحليل الذي هو نشاط علمي إلى حد كبير، ثم إلى التفسير وحيث نشاط الذات هنا أكبر، وبالتالي فهو أقل علمية. وصولا إلى التأويل الذي هو في الأصل نهج في التفكير لا ينتمي للعلم مطلقا.
ربما من المهم التذكير أن التأويل هو نشاط عقلي بامتياز، وهو لا يعتمد بالمطلق على نشاط الحواس أي على ما يرسله الموضوع من معطيات، وأن التأويل هو منهج عقلي ترعرع وسط رجال الدين في محاولتهم فهم ما يريده الله، وما يريد النص الديني أن يقوله، وهو بالتالي منهج عقلي. وفي حين نشأ العلم Science في المختبر، فقد نشأ العقل التأويلي في الكنيسة والمسجد.
في المشهد الإعلامي العربي ينتعش التأويل والتفسير والرأي كثيرا في حين يقل التحليل كثيرا وتغيب المعطيات أو البيانات كثيرا، فصانع المحتوى الإعلامي لا يقدم كثيرا من البيات والمعطيات، والمحتوى الإعلامي تغيب عنه البيانات ويضج بالرأي والتفسير والتأويلات، وأما الجمهور المتلقي فهو أيضا لا يبحث عن البيانات والمعطيات كي يقوم هو بالتحليل وبالمحاكمة العقلية.
في تشخيص أزمة الإعلام العربي وفي محاولة علاج هذه الأزمة فان من المهم التفكير في التربية الإعلامية وتطوير الثقافة الإعلامية, ولكن ولان الأزمة أعمق من مجرد كونها أزمة تربية وسلوكيات يومية،بل هي في العمق أزمة عقل لا يميز بين ما هي موضوعي وما هو ذاتي، بين ما تنتجه الحواس من معرفة، وما يصنعه العقل من مقولات ذاتية. ربما من المهم الإشارة هنا إلى تلك الصعوبات التي يواجهها المتدربون العرب في حقول الإعلام عندما يقوم خبراء ألمان أو فرنسيون بتدريبهم على "صحافة البيانات".