لو سألتني: ما هي القيمة الغائبة التي يحتاجها مجتمعنا في هذه المرحلة؟ لقلت على الفور: الحوار ، والحوار المقصود لا علاقة له - قطعا - بهذه السجالات التي تزاحمت مؤخرا في صالوناتنا ومنابرنا واخذت اشكالا مختلفة اقرب ما تكون الى الصراع ، ولا - ايضا - بحالات "التموضع" والتكتل وما رافقهما من تراشق هنا او التباسات واشتباكات هناك ، وانما المقصود منه الخروج من هذه الدوائر المحتدمة واحياء لغة جديدة تقوم على التفاهم والتواصل والوعي على شروط المرحلة ومتطلباتها وانضاج حالة من التوافق والانسجام التي تصنعها المواقف العاقلة ، المنفتحة على الذات والمتصالحة مع الآخر في آن.
الحوار - هنا - ضرورة وفريضة ، وغيابه او تغييبه "كارثة" ومحاولات الالتفاف عليه او طلاء جدرانه بدل العمل على بنائها نوع من "العبث" ، وما لم نتوصل بالحوار الى تفاهمات ومصالحات فاننا - بغيره - ومهما كانت البدائل سندخل مجددا في حالة من "الفراغ" وافتقاد الوزن ، وسنعيد - مرة اخرى - انتاد ادوات جديدة تذكي "الصراع" القاتل ، والدوران الفارغ وتجرح "المشتركات" والجوامع او تضيّق عليها الخناق فيما تتوسع دوائر الفروق والصدامات وتشتد وطأتها ولا تسأل حينئذ عن النتائج.
لماذا اصبح الحوار مقطوعا في مجتمعنا؟ ولماذا يتحول - حين نستدعيه - الى حوار طرشان؟ هل لدينا ازمات عصية على الحل بالحوار؟ هل اصبحت الابواب مسدودة امام اي تفاهم؟ هل تعطلت "لواقط" المجتمع عن استقبال اي رأي آخر؟ لا ادري ، ولكنني اعتقد بأن كل ما نعانيه ونشكو منه هو نتيجة لغياب "منطق" الحوار.
وشيوع ثقافة "المناكدة" والمناكفة ، والتفنن في انتاج مشروعات متجددة "للأزمة" بحيث يشتبك الجميع مع الجميع ، وينشغل الكل بالكل" وندور في حلقة مغلقة وفارغة ، ونتصور بأن ثمة رابحين وخاسرين فيما الحقيقة ان مجتمعنا كله هو الخاسر ، واننا - جميعا - ضحايا لصراعات غير مفهومة ولا منتجة ولا ضرورية ، واسرى لحالة يغيب فيها الروح والوعي ، هذان اللذان لا ينبضان الا بوجود الحوار الذي هو اساس الحياة.
لا نحتاج - بالطبع - الى شواهد للتدليل على ما اصاب مجتمعنا بسبب "انقطاع" الحوار بيننا ، فالعنف الذي نتابع فصوله ، على صعيد المشاجرات بين الصغار والكبار ، او السجالات "المفخخة" بين النخب او الصراع على الادوار والمواقع.
هو نتيجة طبيعية لمنطق الانكفاء الذي نتعامل به مع بعضنا البعض والقطيعة التي نحزنا لها على حساب التواصل والتناغم والانسجام وهو نتيجة - ايضا - لمناخات التوتر والتشكك والتلاوم التي افرزتها اوهام البحث عن الحلول في سياقات "المغالبة" لا المشاركة والتفتت لا الوحدة والمصادمة لا الحوار ، والتركيز على الفروق وتضخيمها بدل الجوامع والمشتركات.
في مرات عديد جربنا "صيدلية" الحوار ، ووجدنا فيها ما نحتاجه من "ادوية" لأمراضنا ومشكلاتنا ، وفي مرات عديدة دفعنا ثمن افتقاده وتغييبه وانقطاعه ، وكان - بوسعنا - بعد هذه التجارب ان نتعلم من دروس النجاح والفشل ، وان نتوجه الى "الاستثمار" في الحوار كقيمة مثمرة ، لكي نحسم كل الاسئلة التي تتردد في انحاء مجتمعنا ، وكل القضايا التي تشغلنا بأجوبة مقنعة ومصارحات وتفاهمات تفضي الى مصالحات حقيقية تجنبنا غوائل الانسدادات والانفجارات التي ينتجها "الضغط" او الشد المتبادل داخل الجسد الواحد.
يصعب عليّ ان اتصور ما فعلناه بأنفسنا ، وما يمكن ان يصيب مجتمعنا حين اسأل: لماذا انقطع الحوار بيننا فلا اسمع صدى اجابة او شبح مجيب.
الدستور