التعليم وتحديث المنظومة السياسية: أفكار أولية
محي الدين توق
16-12-2021 02:05 AM
في أحد اللقاءات التي نظمتها اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية اقترحت على رئيس اللجنة دولة سمير الرفاعي ان يصار الى تشكيل لجنة متخصصة لدراسة الإصلاحات التربوية المطلوبة لتعزيز الإصلاح والتحديث السياسي الذي ستقترحه اللجنة الملكية. أما وان هذا الامر لم يحدث فقد رأيت ان اطرح للنقاش العام بعض الأفكار الأولية حول هذا الموضوع المهم.
لم تتقدم أي دولة في السبعين سنة الأخيرة إلا وكان التعليم أحد اهم مسبباته، بدءا من الدول التي هزمت في الحرب العالمية الثانية كألمانيا واليابان، او تلك التي واجهت تحديات مصيرية كالولايات المتحدة الاميركية عندما تقدم عليها الاتحاد السوفييتي في غزو الفضاء في منتصف القرن الماضي، او تلك التي استقلت حديثا كسنغافورة وتايوان وماليزيا، او تلك التي اختارت طريق بناء قوة الدولة ومنعتها عن طريق تطوير مواردها البشرية كفنلندا والسويد والنرويج وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب افريقيا. ففي كل الحالات السابقة اجرت هذه الدول مراجعات نقدية لنظمها التعليمية واختطت طرقا ومنهجيات جديدة لتطويرها تم بناؤها على عناصر القوة في ثقافاتها وتجاربها الوطنية من ناحية، واستشرافها الواعي لمستقبلها من ناحية ثانية، وطبيعة التحديات الي تواجهها مجتمعاتها من ناحية ثالثة.
ولعل ابرز ما ميز تجارب هذه الدول مقارباتها الشاملة لتطوير نظمها التعليمية التي تناولت الأغراض والمضامين والطرق والأساليب والبيئات التعليمية والتربوية، فالعملية التعليمية كما هو معلوم نظام شامل ومتكامل لا يصلح الا بإصلاح كافة عناصره ومكوناته.
إن محاولة اصلاح أحد او بعض عناصر النظام التعليمي او مكوناته قد يفضي الى مكتسبات وقتية ومحدودة على المدى القصير إلا أنه لن يؤدي الى التقدم التربوي والاجتماعي والاقتصادي، الذي ينقل الدولة والمجتمع نقلة حضارية ونوعية تسهم في التنمية المستدامة والازدهار.
يمر الأردن بمرحلة تحول لم تتضح معالمه النهائية بعد، كما يقف الأردن على عتبة حقبة جديدة بعد مرور مائة عام على تأسيسه حقق خلالها منجزات تربوية كبيرة لا يمكن انكارها، وخاصة في مجال إتاحته للجميع وعدالة توزيعة وانتشاره، وإن كان الجميع يطمح الى نوعية أفضل لمخرجاته.
ان النقد -الجارح أحيانا- لمخرجات التعليم يعبر في حقيقة الامر عن الرغبة الأكيدة لدى الجميع لتطوير النظام التعليمي وتحديثه بحيث يرتقي بمستوى تحصيل الطلبة، ويعظم نموهم الشخصي والمهني، ويؤهلهم للحصول على عمل لائق، ويعزز انتمائهم الوطني وحسهم المدني، ويسهم في ازدهار الدولة والمجتمع.
إن تحقيق نقلة نوعية في وضع الدولة الأردنية وحياة المجتمع في المئوية الثانية يتطلب ان يرافق الجهد الوطني الرامي الى تحديث المنظومة السياسية وإصلاحها ويتزامن معه جهد مماثل لتحديث المنظومة التعليمية.
إن الإنسان الواعي والمتمكن فكريا وثقافيا وسياسيا هو الذي يستطيع ان يحقق هذه النقلة وقد لا يختلف اثنان على ان تغيير السلوك السياسي للأفراد سواء المتعلق بالمشاركة السياسية او المشاركة الحزبية لا تحكمه التشريعات فقط، على أهميتها، بل يتأثر هذا التغيير بدرجة كبيرة بالثقافة السياسية التي تنمو لدى الافراد من خلال جهود المؤسسات التربوية والإعلامية والاجتماعية والثقافية، وقد عبر جلالة الملك عن ذلك بكل وضوح في خطاب العرش في افتتاح الدورة البرلمانية العادية لمجلس الامة، كما يتأثر التغيير بسلوك السلطة التنفيذية وردود فعلها إزاء ممارسات النشطاء السياسيين.
يلعب النظام التعليمي دورا محوريا في التنمية السياسية، وتطوير المواطنية، والحفاظ على السلم الاجتماعي، وذلك من خلال التركيز على تعليم الديمقراطية وحقوق الانسان، وحكم القانون، والمواطنة، والعيش المشترك، ومهارات الحياة المنتجة، مثل التفكير التحليلي والنقدي والابداعي وحل المشكلات والمشاركة المدنية والتواصل الفعال والعمل مع الآخرين واحترام التنوع والتشبيك وحماية الموروثات الثقافية والبيئة. ومن هذا المنطلق لا بد من النظر في الإصلاحات التربوية والتعليمية المطلوبة لدعم وتعزيز النتاجات المرغوبة لعملية التحديث السياسي.
إن إصلاح النظام التربوي والتعليمي امر مطلوب بحد ذاته، وقد قمت بتحديد بعض الأطر والمداخل لهذا الإصلاح في كتابي “الإصلاح التربوي” الذي صدر بداية هذا العام، الا عندما يتعلق الامر بإحداث نقلة سياسية واجتماعية نوعية من النوع المرغوب فيه، والذي حددت اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية بعض معالمة، فإن الإصلاح التعليمي العميق يصبح ضروريا وملحا.
توجه المؤسسون والبناة الأوائل للدولة الأردنية فطريا لتطوير التعليم وبناء مؤسساته ومناهجه وطرقه وأساليبه وتوفير مستلزماته بشكل ممنهج ونظامي بحيث أصبح التعليم أحد اهم السبل لبناء الدولة الحديثة وتنمية الموارد البشرية.
ولم تمض سوى عقود قليلة من عمر الدولة الفتية حتى اصبح الأردن في مقدمة الدول العربية، خاصة فيما يتعلق بتحقيق اهداف التعليم للجميع والاهداف الإنمائية للألفية. كما استجابت التشريعات التربوية للتغيرات السياسية في الدولة وتطورات الفكر التربوي العالمي بشكل جلي وفعال، فقد تواءم اول نظام للتعليم في الأردن الذي وضع سنة 1939 مع متطلبات تأسيس الدولة الفتية، كما تواءم قانون المعارف لسنة 1955 مع متطلبات الاستقلال ووحدة الضفتين، وانسجم قانون التربية والتعليم رقم 16 لسنة 1964 ورقم 3 لسنة 1994 مع متطلبات تحديث الدولة الأردنية وتطورات الفكر التربوي العالمي.
وخلال هذه المسيرة الطويلة عقدت عديد المؤتمرات ووضعت الاستراتيجيات والخطط لتطوير العملية التربوية كان اكثرها شمولا وتأثيرا مؤتمر التطوير التربوي العام 1987 وقد كان لجهود سمو الأمير الحسن بن طلال المتواصلة والدؤوبة ومتابعته الحثيثة الأثر الأكبر في نجاحة وقد كان من نتائجه تطوير المناهج والكتب المدرسية، وطرق اعداد وتدريب المعلمين، ونشر الابنية المدرسية على رقعة الوطن، وزيادة العناية بالبيئات التربوية والمدرسية، ووضع قانون عصري للتربية والتعليم. وفي الالفية الجديدة ظهرت مبادرات في غاية الأهمية كتعميم تدريس اللغة الإنجليزية والمهارات الحاسوبية، وتوجيه التعليم نحو اقتصاد المعرفة، الا ان أيا من هذه المبادرات لم تمس قانون التربية والتعليم النافذ الذي مضى علية قرابة 28 عاما.
حدث في الثلاثين سنة الأخيرة تغيران مهمان عالميا ومحليا، أولهما، ثورة التقانة والمعلومات وظهور اقتصاد المعرفة الذي ترك آثارا جمة على سوق العمل والإنتاج، وثانيهما، ثورة الآمال والتطلعات لدى الشباب والتي تمثلت بالرغبة في الحياة الديمقراطية، وترسيخ حكم القانون، واحترام حقوق الانسان وعلى رأسها المشاركة في الحياة السياسية واتخاذ القرار، والعدالة، والمساواة، والحرية، والكرامة، وقد انعكس هذان التغيران ليس في مجمل الحياة السياسية فحسب، بل في النظم التعليمية الحديثة من حيث أغراضها، ومضامينها، وطرق التدريس، وبيئات التعلم والتعليم، وكنتيجة لذلك قام عدد من الدول بمراجعة نظمها التعليمية لتحقيق مواءمة افضل مع هذه التغيرات والتطورات العالمية والتحديات التي تخلقها معدلات التغير السريعة في الاقتصاد والادارة والعلوم والتكنولوجيا.
ان الدخول في المئوية الثانية من عمر الدولة ومتطلبات الحداثة السياسية تستدعي إعادة النظر في المنظومة التعليمية بدءا بقانون التربية والتعلم لضمان مواءمته مع توجهات المستقبل وتحدياته من جهة، ومع الواقع السياسي الجديد الذي ترغب الدولة الدخول فيه من جهة ثانية، ووصولا لمراجعة مضامين المناهج والكتب المدرسية، وطرق التعليم والتقويم، والبيئات التربوية والمدرسية، لتتماشى مع التغيرات المرغوبة.
لا تهدف هذه المقالة لتحديد معالم التغيرات المطلوبة في النظام التعليمي، بل تهدف الى إثارة الوعي بأهمية الموضوع، والتأشير لبعض المعالم لتوجهات التغيير، وفتح نقاش مجتمعي حولها. وكما اسلفت يجب ان يتناول النقاش مجمل العملية التعليمية لا جوانب محدودة منها. ففيما يتعلق بالأغراض، لا بد من مراجعة أسس ومرتكزات واهداف التعليم في قانون التربية والتعليم النافذ للتأكد من انها تغطي بشكل معقول المتطلبات الأساسية لعملية الإصلاح والتحديث السياسي كالديمقراطية، وحقوق الانسان، وحكم القانون لتعزيز المشاركة السياسية، والحوار، والعقلانية، والتعددية، واحترام الآخر، والموضوعية وحرية الرأي والتعبير، والمواطنة المتساوية، التي لا تستقيم الحياة السياسية الوازنة بدونها.
اما فيما يتعلق بالمضامين، فلا بد من التأكد من أمور أساسية من بينها توجه المؤسسين والبناة الأوائل للدولة الأردنية فطريا لتطوير التعليم وبناء مؤسساته ومناهجه، والمهارات العقلية والوجدانية والسلوكية اللازمة لمواجهة تحديات المستقبل ومتطلبات أسواق العمل الجديدة بشكل امين ومتوازن، وتوفر الترابط والتكامل والاتساق بين وحدات المناهج الدراسية المختلفة بحيث تؤدي جميعها الى تحقيق الأهداف المنشودة وبحيث لا يهدم بعضها ما يبنيه البعض الآخر، وان تراعي المناهج الترابط والتكامل بين المعلومات والأفكار واخلاقيات العلم والمعرفة والواقع الاقتصادي الاجتماعي للدولة، إذ من الثابت ان تدريس المباحث المختلفة بشكل منفصل عن الواقع الاجتماعي والعلاقات الإنسانية والمشكلات المحلية لن يؤدي الى تنمية الشخصية الإنسانية المتوازنة والوصول الى التحديث السياسي والتطور الاجتماعي المرغوب.
ومن الضروري كذلك التأكد من ان المنهج الخفي في غرفة الدرس ينسجم مع المنهج الرسمي المعلن ولا يتناقض معه.
أما فيما يتعلق بالطرائق والأساليب وبيئة التعلم، فإن إعداد الشباب والشابات للمشاركة في الحياة السياسية يتطلب تحولات جذرية في مقاربات المعلمين للتدريس، الامر الذي قد يتطلب إعادة تأهيلهم وتدريبهم لضمان تحقق التحديث السياسي المطلوب. ومن هذه التحولات على سبيل المثال لا الحصر:
الانتقال من التركيز على التلقين الى التركيز على التفكير والحوار.
الانتقال من التركيز على المعلوم الى التركيز على اكتشاف المجهول.
الانتقال من التركيز على التعلم الفردي الى التركيز على التعلم الجماعي المتشارك.
الانتقال من الاعتمادية في التعلم الى الاستقلالية.
الانتقال من التركيز على مصدر واحد للتعلم (الكتاب) الى التعلم من كافة المصادر المتاحة.
الانتقال من التركيز على مركز واحد للتعليم (المدرسة) الى التعليم في كافة المراكز المجتمعية.
الانتقال من فترة تعلم واحدة الى التعلم مدى الحياة.
الانتقال من فكرة المسلمات والمحذورات الى حرية البحث والفكر والانتقاد.
أما في مجال البيئة المدرسية المحفزة على المشاركة السياسية، فيجب التأكد من تحول المدرسة الى مجتمع منفتح يمارس فيه المعلمون والطلبة النقاش الحر، والحوار المنفتح، والمشاركة في وضع التشريعات المدرسية والرقابة على تنفيذها، وخلق بيئة مدرسية صحية وآمنة جسديا ونفسيا واجتماعيا، وجعل المدرسة بوتقة للتنوير وتنمية المجتمع المحلي وتطويره، وإشراك أولياء الأمور والقيادات المجتمعية في رسم سياسات المدرسة وانشطتها.
إن عملا من هذا القبيل يحتاج الى مقاربة شاملة وحوار وطني معمق يشارك فيه جميع أصحاب المصلحة والشركاء المختلفون لوضع معالم التغيير التربوي والتعليمي المطلوب ورسم خريطة طريق لإعداد الشباب للمشاركة الفاعلة في الحياة السياسية تتبناها الدولة بمختلف مؤسساتها الرسمية المعنية بصناعة المستقبل وإعداد القوى البشرية.
(الغد)