لم أر في حياتي صراع مركبات على سرعة الوصول لفم النفق ،وإطلاق الزوامير وتجاوز الخط الصلب وتشغيل الرباعي للقفز على مركبات المسرب الأيسر، وأيضا مركبات المسرب الأيمن، سوى في هذا البلد الصبور على أهله، والمحتمل لكل غرائب السلوكيات ونذر الأخلاق.
ففي الدنيا قاطبة تجد سائق المركبة كائنا من كان، وكائنا ما كان، يدرك أن قيادة السيارة داخل النفق تستحق التؤدة والالتزام بالخط الوسطي المستمر غير المتقطع، سواء أكان طويلا أو قصيرا لبرهة، ويحترم السيارات البطيئة السرعة، ويقدر حياة الآخرين فيفكر بمضاعفات التسابق والتلاحم والتجاوز وإطلاق الزوامير.
الحقيقة أنني قدت السيارة في دول متعددة غير الأردن، وكنت قد حصلت على رخصة السوق الدولية عام 1976 في ولاية ألاباما وعاصمتها منتغمري وقد كانت الجامعة العسكرية ( ماكسويل ) هي مقرنا وهي المدينة التي منحتني الرخصة الدولية لقيادة السيارة من أول امتحان. كان ذلك حينما كنت أرافق زوجي لدورة أركان حرب صغرى للطيارين المقاتلين. وكنت شابة لم يتجاوز عمري الواحدة والعشرين.
يعني حصلت على الرخصة قبل خمسة وأربعين عاما، يعني بروفوسور مضاعف في علم فن وذوق وأخلاق الطريق وقيادة السيارات. وهذه الخبرة لو تمكن منها حمار لأصبح غزالا وتمتع بمعرفة قوانين السير.
هذا بالنسبة لي أنا حيث بدأت قيادة السيارة بمتعة تذوق التجوال في الطريق وممارسة علم الأخلاق في غرفة خاصة مريحة تكشف للسائق مباهج الحياة وجمال المباني والأشجار وطبيعة الأمكنة، والأروع أن يتاح لي أعظم مجال خلال قيادتي للسيارة أن ألتقي بأناس يجلسون في غرفهم المتحركة.
فعلى مسار طريقي في غرفتي الأنيقة المعطرة والتي تصدح من صدرها آيات من القرآن أو لمحات من موسيقى لطيفة أو أتلقى أخبار العالم وأنا أستريح على مقعد وبيد مقود، أتحكم بمتعة غامرة، أحيي ذاك الذي تنازل لمركبتي بالمسير، وأبتسم لذاك الذي حاول التجاوز عن مركبتي ليسبقني للإشارة الضوئية عن يساري أو يميني ويأكل حقي وحق من يلتزم بالتوقف.
أبتسم وأمنعه بإشارة ( شاخصة ) بيدي حمراء توقفه عن سرقة الحق المروري، وبابتسامة ساخرة أسعد بها دون أن أشتم أو أصرخ أو أشير بيدي غاضبة.
فالسواقة والجلوس في غرفة القيادة تبيح لي مشاهدة وتجربة تعامل يومي متجدد جميل بالنسبة لي، ولو جرب كل من يقود سيارة سواء شابا أم شابة، نكهة الراحة والاستراحة وراء المقود، لتصادق الناس ووفروا على دمائهم وأعصابهم تشنجات الموت وضياع كثير من الحياة.
الغريب أن مجتمعنا يعتبر دخوله في ( قمرة السياقة ) وربطه لحزام الأمان وانطلاقه إلى ما شاء الله هي حرب ضروس، يستعد (لمرمغة نفسه ومرمغة ) عدوه المفترض، فلا يوفر طريقة للمناطحة أو المكاسرة حتى تتطور في ذهنه فكرة السكن في غرفة القيادة على الطريق تودي إلى التهلكة أو الإهلاك، فلا يعود قانون أخلاق أو قانون تقني أو تخطيط إداري مروري يحكم أعصابه وآلية يديه على المقود، حتى تصل قدميه الداعستين على الوقود فقط.
يتجرد من بصره وبصيرته ومخيخ قمقم رأسه ولا يشتغل في جسده الجالس المستريح، سوى مقود ووقود.
(الدستور)