قضيت أسبوعين متسكعاً في لاس فيغاس، منبهراً بتفاصيل هذا العدد الكبير من فنادق ضخمة ترتفع على جانبي "ذَ ستريب"، الشارع الأكثر شهرة في تلك المدينة المجنونة. لم أكن أنظر إلى أعلى من قمم مباني فنادق "بيلاجيو"، و"تريجر آيلاند"، و"باريس"، و"بلاتينيوم"، و"إم.جي.إم"، و"فينشيان"، و"بلانيت هوليوود"، وغيرها كثير. كان العديد من السائحين يوجهون أنظارهم إلى أرض الرصيف، حيث تنتشر بطاقات بنات الليل. لم يكن أحد ينظر إلى أعلى من قمم المباني الشاهقة، ولا يأخذ الناظرين للأسفل، خيالهم، إلى ما هو تحت الأرض. الوحيد في الكون الذي عندما سار في ذلك الشارع، ونظر إلى الأسفل، أخذه خياله إلى ما تحت الأرض، وعندما نطر إلى الأعلى، وصل نظره إلى المريخ، مجنون يدعى "إيلون ماسك".

لا أظن مثقفاً، أو مطلعاً، أو متابعاً لما يحدث على ظهر هذا الكوكب، لم يسمع بهذا الإسم، أو لم يأخذه الفضول للتعرف على شخصية شديدة التعقيد يتابع حسابها على "تويتر" أكثر من 66 مليون شخص. شخصية غير مملة على الإطلاق، ولكن شركته التي تحفر الأنفاق، وتقدم الحلول لأزمة الاختناقات على وجه الأرض، اسمها "الشركة المملة". من يخطر بباله أن يطلق على اسم شركة هذا الاسم، ومن هو ذلك الشخص الذي لا يفكر في الامتلاك، رغم أنه أصبح أغنى أغنياء الكون، وإنما يفكر بحل مشكلات العالم، وينفق أمواله وأموال مستثمرين يتعلقون بجنونه، في خلق الحلول، ليس فقط نفقاً تحت أكثر الشوارع اكتظاظاً في لاس فيغاس، أو أن يجسد فكرة النقل فائق السرعة، وأن يضع الناس في كبسولة مضغوطة، تنقلهم من "لوس أنجلوس" إلى "سان فرانسيسكو" في ثلاثين دقيقة، لمسافة تزيد عن 600 كيلو متراً، أو نقل الناس من دبي إلى أبو ظبي في كبسولة مماثلة في 11 دقيقة وبسرعة تبلغ 1200 كيلومتراً في الساعة. مثل هذا الحلم سيفقد الطريق الذهبي السريع بين سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس صفة الذهب. كنت قدت سيارة مستأجرة قبل عدة  سنوات على طريق 101 في لوس أنجلوس، وعانيت الأمرين من الاختناق، لولا رحمة وجود مرافق لي، سمح باستخدام المسار الأيسر من الطريق، والذي لا يسمح لسائق بمفرده، السير عليه. جاء "ماسك" بجنونه الفريد، ليحل محل الدولة بإيجاد الحل.

من هو المجنون الذي يمكن أن يطلق إسم "إكس آش 12" على مولوده، ومن هي الزوجة التي تقبل أن يسمى مولودها بهذا الاسم، بل تبادر إلى إجابة المتسائلين عبر وسائل التواصل حول معنى الإسم، فقالت إن "إكس" هو رمز المتغير المجهول، و"إي" تهجئة للحب أو الذكاء الاصطناعي، وأخيراً فإن الاسم يرمز إلى طائرة زوجها المفضلة. خيّر ابن عم لي زوجته قبل نحو ثلاثة عقود وهي حامل بمولود ذكر في شهرها التاسع، بين إسم "المغيرة" و"القعقاع"، وعندما وجدت أنه جاد بالفعل، "حِردت عند أهلها" إلى أن تراجع وترك لزوجته أن تختار ما تشاء من الأسماء. قالت لي: تخيل أن تناديني يوماً: يا أم قعقاع. "إيلون ماسك" وافقته زوجته على "إكس آش 12"، علماً أن الإسم كان أكثر تعقيداً، ورُفِض من قبل الدوائر الرسمية في كاليفورنيا، بسبب عدم تطابق أي من الأحرف أو الرموز، مع أبجديات قاموس الإنجليزية.

"إيلون ماسك" مجنون، ولكن الجنون فنون، والجنون ضرب من ضروب العبقرية، ولولا هذا الحجم من الجنون غير المسبوق، لما استطاع الرجل أن يطلق صاروخاً ويعود به إلى الأرض، تلك سابقة أبهرت دولاً، وصدمت وكالة "ناسا" التي ألِفت تفجير صواريخها في الفضاء بعد تحقيق أهدافها.

لولا الجنون لما استطاع الرجل تحويل شركة "تيسلا" لصناعة المركبات الكهربائية وخدمات الطاقة الشمسية، التي كانت على وشك الإفلاس عام 2009، إلى أعلى قيمة سوقية لشركة في تاريخ الكون، متجاوزة حاجز 419 مليار دولار، وليرتفع سهمها من 17 إلى ألف دولاراً ويزيد.

هذا كائن مجنون عنيد، جنونه فريد، ولكنه مفيد للبشرية، ويستحق الحديث عنه المزيد. أما نحن، فإن تاريخنا لم يشهد جنوناً إلا بليلى. غداً نواصل.