مستقبل الوظائف بين الجائحة والفضاء الرقمي
د . خالد الوزني
14-12-2021 11:10 PM
في أحدث إصدار لتقرير مستقبل الوظائف، الذي يصدر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، حقائق وأرقام تدعو الباحثين وصنّاع القرار ومستشرفي المستقبل، للوقوف طويلاً أمامها لصياغة سياسات المستقبل القريب والبعيد للقوى البشرية وسوق العمل. ولعلَّ ذلك ذو أهمية أكبر عند الحديث عن الدول النامية أو في طور النمو، خاصة أنَّ معظم تلك الدول تمتلك تركيبة سكانية شابة، تكاد تصل إلى ثلثي عدد السكان، ما يجعل من التخطيط لمستقبل الموارد البشرية قضية تمسُّ الأجيال الحالية والقادمة على حدٍّ سواء.
يتحدَّث تقرير مستقبل الوظائف عن أنَّ العالم سيواجه بحلول العام 2025 اختفاء ما يقرب من 85 مليون وظيفة، بيد أنه يشير أيضاً إلى أنَّ العالم سيولِّد خلال ذات الفترة ما يزيد على 97 مليون وظيفة جديدة لم تكن موجودة من قبل، وأنَّ فجوة الوظائف قد تصل إلى 100 مليون وظيفة في العام الحالي 2021، إلا أنَّ تلك الفجوة ستنخفض مع نهاية العام القادم إلى 23 مليون وظيفة، ما يعني أنَّ توقعات الانفراجة الاقتصادية ستتحقَّق بداية من العام القادم، وأنَّ عشرات الملايين من الوظائف سيتم استعادتها بداية من العام 2022.
كما يشير التقرير إلى أنَّ هناك ما يزيد على 2 مليار شخص، من أصل نحو 3.4 مليارات عامل حول العالم، يعملون في القطاع غير الرسمي. ولعلَّ من أهم استنتاجات التقرير أنَّ الجائحة الأخيرة عزَّزت من عالم الرقمنة في العمل، ما أوجد توجُّهاً عالمياً نحو تحويل 84% من الوظائف حول العالم إلى وظائف رقمية غير ورقية ، يمكن إنجاز معظمها عن بُعد.
يضاف إلى ذلك، ما أشار إليه التقرير من أنَّ نصف القوى العاملة في العالم بحاجة إلى رفع كفاءة، وتعزيز مهارات، وأنَّ العاملين في الجهات الرسمية والعامة هم الأكثر حاجة إلى بناء القدرات؛ أي إلى رفع مستوى أدائهم الوظيفي، وتعزيز كفاءاتهم ومهاراتهم العملية. وأخيراً وليس آخراً، فقد أشار التقرير إلى عدة قضايا فرضها وباء كورونا على المجتمع الدولي، ومنها التحوُّل إلى الرقمنة، والعمل والتعلُّم وبناء القدرات والتدريب عن بُعد، وما أنتجه ذلك من تخفيض الحاجة إلى العمالة في العديد من الظائف، وزيادة الإنتاجية عبر العمل عن بُعد، وتعزيز وما استتبعه ذلك من رفع لمستوى المهارات البشرية.
وتشير معطيات العمل، في عالم الرقمنة، وعالم التعامل مع الوباء إلى أنَّ أكبر الوظائف طلباً خلال الفترة القادمة ستكون تلك المتعلقة بتحليل البيانات، وتوظيف البيانات الكبرى، والتطبيقات الذكية، وإنترنت الأشياء، ومهارات الاتصال والتواصل عن بُعد، والذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا التصميم والبرمجة الرقمية، ومهارات التفاوض والإقناع، ومهارات التحفيز السلوكي.
الشاهد ممّا تقدَّم، أنه ينبغي على دول العالم الراغبة في تحسين مستوى استغلال واستثمار الطاقات الشبابية لديها أن تعمل اليوم على إعادة النظر في منظومة التعليم، للوصول إلى موارد بشرية يمكن توظيفها في متطلبات سوق العمل الجديدة. ذلك أنَّ البطالة الهيكلية القائمة، وتلك التي ستتولَّد بفعل التحوُّل الرقمي وبفعل متطلبات العمل عن بُعد، لا يمكن علاجها عبر سياسات مكافحة البطالة الاحتكاكية، وكأننا نفترض أنَّ العاطلين عن العمل إنما ينتظرون تحسُّنَ أوضاع سوق للعمل، في حين أنَّ مهاراتهم ومؤهلاتهم هي من تجعلهم غير مناسبين لسوق العمل الحالي والمستقبلي؛ فهم حملة شهادات وليسوا حملة مؤهلات تتناسب أو تتماهى مع سوق العمل ومتطلباته القادمة.
وعليه، فإنَّ المخطط الاقتصادي لسوق العمل وللموارد البشرية عليه أن يُقرِّر اليوم ما إذا كان سيرغب في تزويد سوق العمل بخريجي جامعات لوظائف المستقبل أم لوظائف ستختفي خلال السنوات الخمس القادمة. كما ينبغي على صنّاع القرار إعادة النظر في منظومة التعليم بمراحلها المختلفة، لتكون رافداً لتخريج وتأهيل جيل يصلح لنحو 97 مليون وظيفة جديدة ستتوزّع بين البشر، والإنسان الآلي، والخوارزميات الرقمية. وفي هذا السياق، يمكن القول إن النظام التعليمي في العديد من الدول اليوم يُخرِّج حملة شهادات بالكاد يصلحون للوظائف التي ستختفي، أي إنه يعمل لصالح تكديس البطالة.
الثورة التعليمية المطلوبة يجب أن تبدأ منذ سنوات ما قبل المدرسة، وتستمر حتى أعلى مستويات التأهيل العلمي والمهني والأكاديمي.
العالم يتطور نحو استشراف مستقبل الوظائف، وعلى صنّاع القرار أن يتطوروا إلى مستويات الاستشراف المطلوبة برشاقة وفاعلية بشكل خَلَّاق. هناك حاجة، وفي كافة مستويات المسؤولية، إلى قيادات استشرافية رشيقة خَلَّاقة Foresighted Agilely Disruptive Leadership لتضع خريطة طريق استشرافية رشيقة تجعل الدول تُحقِّق الاختراق المطلوب في عصرٍ فضاؤه يتجاوز توقُّعات الحاضر، ومسباره يحمل مستقبلاً لزمانٍ قد لا نتخيَّل مستوى التطوُّر والحداثة فيه.