صحوت بعد العصر من نومي على صوت هدير موج البحر، بعد أن تناولت وجبة شهية من الأسماك على شاطيء «كًتا» في جزيرة «بوكِت» التايلندية، تناولت قهوتي على شرفة غرفتي المطلة على البحر في ذلك الفندق العائلي الدافئ، استعداداً للتوجه إلى «باتونغ»، قلب الجزيرة، لمشاهدة عرض فني تشارك فيه أفيال وقرود وطيور من أنواع مختلفة.
حملت تذكرتي وسجائري وكل أشيائي الصغيرة، وترجّلت لأستقل «توك توك»، لينقلني إلى المكان الذي يبعد حوالي ستة كيلو مترات عن موقع إقامتي. كان الوقت مبكراً حتى ذلك الحين، فعبرت إلى «جنكسيليون مول» المقابل لشارع «بنغلا» الشهير بكل أنواع الجنون الذي يبدأ عند مغيب الشمس وحتى مطلع الفجر. كانت فكرة تداعبني كلما مررت بذلك النادي الصحي، وأنا أرى رجالاً يستلقون على أسرّة وثيرة بيضاء، ليسلّموا أنفسهم لفتيات محترفات، يعتنين بأظافر أرجلهم وأيديهم، ومنهم من يختار أن يضع رجليه في حوض أسماك صغيرة سوداء، تسارع إلى التهام «الجِلد الميّت» من البشرة، وهذا ما فعلته.
خرجت قبل ربع ساعة من بدء العرض حاملاً تذكرتي، وسرعان ما وجدت نفسي أجلس على مقعدي في مقدمة الصالة الضخمة، وفي موقع القلب من المسرح. التفت إلى يميني حيث جلست فتاة أوروبية الملامح. قرأت رقم مقعدها، كان الرقم 14، والتفت إلى يساري حيث جلست فتاة شرق آسيوية الملامح، انتبهت إلى رقم مقعدها وإذ به 12، لكني فوجئت عندما قرأت رقم مقعدي بعد ذلك، إنه نفس رقم مقعد الفتاة الآسيوية، الفارق أن مقعدها «ئي»، وأنا «بي». ابتسمت وأنا أفكر أين ذهب الرقم 13 من بين أرقام المقاعد، لأسمع الفتاة الأوروبية وهي تبتسم وتقول بصوت مرتقع: يبدو أن حظك الليلة هو رقم 13. لم أعلق، ابتسمت في وجهها، لأسمع الفتاة شرق الآسيوية تجيبها: مقعده لا يحمل الرقم 13. قلت: لا مشكلة في ذلك، كيف لا أكون محظوظاً وأنا أجلس بين فتاتين جميلتين، ربما تكونان أجمل فتاتين في هذه الصالة، الرقم ليس مهماً، وعلى أي حال فأنا غير متفائل وغير متشائم من الرقم. قالت الفتاة الأوروبية: إذا لم تكن متشائماً ولا متفائلاً، فماذا تكون؟ قلت: أكون «برونو كرايسكي». قالت: هل هذا اسمك؟ قلت: لا. أقصد أنني حيادي. انتهى النقاش، وبدأ العرض، ونسيت الحكاية.
مسألة التشاؤم والتفاؤل تتعلقان بنوع النظارة التي تضعها، وليس بالضرورة تغير المقعد أو اختلاف المشهد. ياسر عرفات مثلاً غير نظارته السوداء بنظارة لها عدستان شفافتان بناء على نصيحة صديقه «برونو كرايسكي» مستشار النمسا الذي كان له الفضل في تغيير صورة «أبو عمار» في العالم من «كائن إرهابي» يسعى إلى تدمير اليهود، إلى «داعية سلام» يسعى إلى نيل الحقوق، فغيرت النظارة النظرة، من «التدمير» إلى «التحرير»، ولكن تغيير النظارة لم يغير المشهد، فقد غاب عرفات، وغابت النظارة، وغاب كرايسكي، وظل المشهد كما هو. أرض محتلة، واحتلال جاثم على صدر الأرض والأهل.
لا تغير نظارتك؛ اعمل على تغيير المشهد، وعلى تغيير الواقع، وستتغير الرؤيا بدون تكاليف لا طائل لها، ولا فائدة مرجوة من ورائها.
(الدستور)